بيروت | Clouds 28.7 c

تعلّموا من الخليفة عمر بن الخطاب / بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 24 أيلول 2020

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {تلك الدَّار الآخرة نجعلُها للذين لا يُريدون عُلوًّا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين } سورة القَصص.

وجاء في كتاب "أدب الدنيا والدِّين" للماوردي عن أبي بَكْرةَ أن أعرابيًا أتى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال:

يا عُمر الخير جُزيت الجنَّة                   أُكسُ بُنيَّاتي وأمَّهنَّهْ

وكن لنا من الزمان جُنَّة                     أُقسم بالله لتفعلنَّهْ

فقال سيدنا عمر يمازحه: فإن لم أفعل يكون ماذا؟ فقال: إذًا أبا حفصٍ لأذهبنَّه، فقال عمر: فإذا ذهبت يكون ماذا؟ فقال:

يكون عن حالي لتُسألنَّه                   يوم تكون الأعُطيات منَّه

وموقف المسئول بينهُنَّه                    إما إلى نارٍ وإما جنَّه

فبكى سيدنا عمر حتى اخضلَّت (ابتلَّت بالدموع) لحيته ثم قال: يا غلام أعطه قميصي لذلك اليوم لا لشعره أما واللهِ لا أملك غيره.  

لئن كان تاريخنا مليئًا بالعظماء فإن سيدنا عمر بن الخطاب في ذُرى قمم العظمة عَلَمٌ تستمد من سيرته الأجيال معاني الرِّفعة والسُّمو وإمامٌ تقتدي به الأكابر.

 

عمر العظيم

وما أحوجنا ونحن في زمنٍ نشهد فيه البغي والظلم والفساد والانحراف ونعيش فيه في ظل مآسٍ جمَّة حتى لا يكاد يمر يومٌ إلا ويتعرَّض فيه أناسٌ أو شعوب بأسرها للحيف والاضطهاد ويتساءل الكثير عن العدل ومعاني العدل ولماذا قلَّ العدل؟ ونحن نقول: ليس كلُّ مسؤول عمرَ بن الخطاب ولكن جديرٌ بكل مسؤول أن يقتدي بعمر بن الخطاب. فما زلنا قديمًا وحديثًا نطرب بمآثر الخليفة عمر ونقرأ أخباره فنرى في مناقبه العز العظيم والمجد المؤثَّل، وكم يفتقر أكثرنا وعلى كافة المستويات في هذه الأزمان العصيبة التي تعصف بالبلاد والعباد إلى الاقتداء بعمر رضي الله عنه في تقواه وورعه وعدله وحزمه وتواضعه وانصياعه للحق وقيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يُداهن ولا يُخادع ولا تأخذه في الله لومة لائم، كيف لا وهو الذي وصفه الصادق المصدوق نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم بقوله: "رحم اللهُ عمرَ يقول الحق وإن كان مُرًّا تركه الحقُّ وما له من صديق". رواه الطبراني عن الإمام علي.  

ويا له من موقفٍ جليلٍ ومؤثرٍ جدًا حين قصد هذا الأعرابي سيدنا عمر فأتاه ووصل إليه بسهوله إذ لم يكن من عادة سيدنا عمر الاحتجاب عن الناس بل كان يخالطهم فيكون بينهم يقضي حاجاتهم وينظر في أمورهم ويشهد الصلوات المكتوبات معهم، فهو تارةً في المسجد وتارةً في شوارع المدينة يتفقَّد أحوال الرَّعية وتارةً يحمل الطعام على ظهره يذهب به إلى المستحقين، يفعل هذا بنفسه من غير وزير ينوب عمَّا رأى عمر أن يقوم به هو بنفسه حيث آلت مقاليد الحكم إليه، ويجيءُ هذا الأعرابي يطلب الكسوة لبناته ولأمِّهنَّ ليكون عطاء سيدنا عمر له جُنَّةً أي وقايةً من نوائب الزمان، ويُذكِّر الأعرابي سيدَنا عمرَ بيوم القيامة حيث الحساب والجزاء ففريق في الجنة وفريقٌ في السعير وتكون الأعطياتُ في ذلك اليوم مِنَّةً أي فضلًا وكرمًا من غير وجوبٍ على الله فيجزي اللهُ الثوابَ الجزيل على العمل الصالح وإن قلَّ، وتتجلَّى عندئذٍ عظمة الفاروق عمر فيبكي حتى تبتلَّ لحيته بالدموع ويأمر بقميصه للأعرابي ليكون هذا العطاء الذي لا يملك غيره ذخرًا له ذلك اليوم. ومن أيقن أن وعد الله بالثواب ووعيده بالعقاب حقٌ كائنٌ لا محالة جديرٌ به أن ينظر ماذا يُقدم لآخرته، ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون وبعضهم يعلمون ولا يعملون بعلمهم فيغفُلون عن تقديم الزاد لذلك اليوم الذي لم يغفل عنه الصَّالحون ولو أن يتصدَّق أحدهم بقميصٍ لا يملك غيره.   

عمر العبقري

هكذا كان حال الخليفة عمر بن الخطاب وهو الذي أعزَّ الله به الدين وأقام به منار العدل وأزال بجهاده الظلم في نواحٍ كثيرةٍ وإذا به لا يجد إلا قميصًا واحدًا. لقد استطاع عمر رضي الله عنه رغم تفوُّق الأعداء عددًا وعُدَّةً أن يتفوَّق عليهم حزمًا ونصرًا وما ذاك إلا بخوفه من الله ومراعاته أحكام الدين فبارك الله له في همَّته وسعيه الدؤوب للعمل بما تتحقق فيه مصلحة الأمة العليا حتى فتح بيت المقدس وتسلَّم مفاتيح القدس من كبار الروم وهو لابسٌ عباءةً فيها أربع عشرة رقعة.

وهنا نقول: جديرٌ بكل مسؤول عن شعبٍ أو مؤسسةٍ أو شركةٍ أو أسرةٍ أن يتعلَّم من مناقب الخليفة عمر ومن سيرته سواء ٌعلى مستوى الأمة أم على مستوى الأفراد فلقد ترك عمر بن الخطَّاب تُراثًا عاليًا وغاليًا لكل مسترشدٍ يروم السلامة فيما يتعاطاه من أعمال الأمة.

روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أُريتُ في المنام أني أَنْزِعُ بدلوِ بَكْرَةٍ على قَليبٍ فجاء أبو بكرٍ فنَزَع ذَنُوبًا أو ذَنُوبين نَزْعًا ضعيفًا والله يغفر له ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحَالت غَربًا فلم أر عبقريًّا من النَّاس يفري فَرِيَّهُ حتى رَوِيَ النَّاس وضَرَبُوا بِعَطَن".

"والنَّزع" بمعنى الاستسقاء أي أستقي وقوله: "بدلو بَكْرَةٍ" فالبَكْرةُ هي التي يُجعل فيها حبل الدَّلو وهي خشبةٌ مستديرةٌ يُجعلُ فيها الحبل يُعلَّق بآخرها الدَّلو ليُستسقى به، "والقليب" البئر قبل أن تُطوى يعني قبل أن تُبنى بالحجارة ونحوها، "ونزَع" استسقى، "والذَّنُوب" الدَّلو العظيمة، وقوله: "نزعًا ضعيفًا" لا يدُلُّ على النقص إنما فيه إشارة إلى قِصَر مدة خلافة أبي بكرٍ الصِّديق فقط. وقوله: "فاستحَالت" أي تحوَّلت "والغَرْبُ" الدَّلو أكبر من الذَّنُوب أي صارت الدَّلو عظيمةً جدًا في يد عمر، "والعبقري" السيّد، "ويَفْرِي فَريَّه" أي يعمل عمله، وقوله: "ضرب الناس بِعَطَن" أي أرْوَوْا إبلهم ثم آوَوْها إلى عطَنها وعطن الإبل مفرد أعطان أي مواضع إقامتها، وهذا إشارةٌ إلى اتساع الإسلام وكثرة الفتوحات في خلافة عمر.

وحيث ظهر لك من خلال تأملك لهذا الحديث فضل وعظمة الخليفة عمر بن الخطاب فانظر أين أدعياء العظمة اليوم من سيدنا عمر الذي ما كان يملك إلا ثوبًا واحدًا، وكثيرٌ ممن ينعتهم الناس بالفقر والمسكنة في هذا الزمان يملكون من متاع الدنيا ما لم يكن مثله عند أمير المؤمنين عمر.

فالعدل ركنٌ ثابتٌ                أرسى دعائمه عمر

والعز طودٌ شامخٌ                وعلى شواهقه عمر

والحمد لله أولًا وآخرا.

الوسوم