بيروت | Clouds 28.7 c

المعاملة الحسنة من الدين/ بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 17 أيلول 2020

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {وقل اعملُوا فسيرى اللهُ عملَكم ورسولُه والمؤمنون وستُردُّون إلى عالم الغيب والشَّهادة فيُنبئكم بما كنتم تعملون} سورة التوبة.  

وعن عبد الله بن عمروٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فمن أحب أن يُزحزح عن النَّار ويُدخَل الجنة فلتأته منيتُه وهو يُؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يُحب أن يؤتى إليه" رواه مسلم.

يرتبط الناس بعضهم ببعضٍ في علاقاتٍ كثيرة بعضها علاقات قرابة وبعضها علاقات صداقة وبعضها علاقات عمل وبعضها علاقات تمريضٍ وطبابة إلى غير ذلك، ويحتاج الإنسان أن يتعاطى مع الإنسان في معاملاتٍ قد تصل أحيانًا إلى حد الضرورة ولذلك على المرء أن يُحسن التعاطي مع الآخرين كما أرشد إلى ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، فمن أحب أن يُزحزح أي يُبعد عن النار ويكون من أهل الجنة فليثبت على الإيمان والعمل بما أمر الله به حتى يأتيه الموت وليُعامل الناسَ بالحسنى، ومن حُسنِ المعاملة أن لا تفعل مع الناس فعلًا يُحوجك إلى الاعتذار فإن من تجنب الأعمال التي تضطره إلى الاعتذار فهو حكيم، وهذا معناه: أن تنظر فيما تريد قولَه أو فعلَه مع الآخرين هل ترضاه لنفسك أو لا؟ فإن كان يُزعجك لو واجهك أحدٌ به فإنه يُزعج غيرك أيضًا فكفَّ عنه فإن ذلك يجعلك في غُنيةٍ عن الاعتذار إلى أحدٍ أو طلب الصفح من أحدٍ.

فوائد المعاملة الحسنة

وبالتالي فإن حُسن معاملتك للناس يعود بالخير والنفع عليك كما أن له أثرًا عظيمًا في نفوس الناس فإن المعاملة الطيبة حصنٌ يقيك من شُرور الآخرين، بخلاف المعاملة الخبيثة فإنها تكسبك عداوتهم ويترتب عليك جرَّاء ذلك أن تستسمح من أسأتَ إليهم ولذلك صح أن يُقال: المعاملة الحسنة من الدين، ولا يصح أن يقال: الدين المعاملة، وإن اشتهرت هذه العبارة على ألسنة بعض الناس لكنها غير صحيحة وليست من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من كلام أحدٍ من العلماء المعتبرين، لأن المعاملة منها ما يكون حسنًا ومنها ما يكون فاسدًا فلا يصح في الشرع ولا في اللغة إطلاق هذا اللفظ، إلا أنه لا شك أنه ينبغي على كل أحدٍ أن يُحسن أسلوب تعامله مع الآخرين من أهله وجيرانه وزملائه في العمل وأن يُراجع تصرفاته اليومية ولا يتسرع في الأقوال والأفعال ولا في اتخاذ المواقف فإنه قد يقول قولًا أو يفعل فعلًا يؤذي فيه نفسه أو يؤذي أخاه فيلزمه أن يستسمحه فيأنف عن طلب المسامحة منه فيكون بذلك عاصيًا لله، وبالتالي ينبغي أن يَزين ما يُريد الدخول فيه بميزان الشرع ثم يُقدم عليه أو يتولَّى عنه. ولعلك لو نظرتَ في طريقة تعاملك مع الناس بإنصافٍ وهدوءٍ وجدت بونًا شاسعًا جدًا بين الواقع والمطلوب، واكتشفت أنك كثيرًا ما تعامل إخوانك بخلاف ما تحب أن يعاملك به غيرُك. فكم نرى من يُعامل ابنه بخلاف الطريقة الصحيحة فيسيء إليه ولا يرى في ذلك ضيرًا  بدعوى أنه ولده ويجهل أن للولد حقوقًا على الأب فلا يُراعي تلك الحقوق لأنه لم يعرفها أصلًا، أو يظلم أخاه بدعوى أنه أصغر منه سنًا ولا يزال تحت رعايته ويدافع عن نفسه بكلام فاسد فيقول: "قال المثل: أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة". وكم من صغارٍ في السن فاقوا كبارًا وشواهد التاريخ في ذلك كثيرة. والبعض يأكل حق أخته في الميراث بدعوى أنها لا حيلة لها ولا تعرف كيف تتصرف بأمور المال، أو ينهر والديه ويُغلظ لهما القول بل قد يصل الأمر ببعضهم إلى حدِّ أن يخجل أن يقول هذا أبي أو هذه أمي فيسعى للتخلُّص منهما ويحجزهما في غرفة ضيقةٍ أو يأخذهما إلى مأوى العاجزين ثم لا يزورهما بعد ذلك ولو مرةً في العام، أو يضطهد زوجته ويُعاملها كأنها من بعض مقتنيات البيت، وإذا ما نصحه ناصحٌ احتجَّ بزعمه بقوله: {الرِّجال قوَّامون على النساء} سورة النساء. وإنما القوامة بالحق وفلانٌ قوَّام على الشىء إذا قام بالنظر فيه وحفظه وهذا يقتضي أن تكون قائمًا على زوجتك بما يوافق الشرع فتأمرها بالمعروف وتنهاها عن المنكر وتُحسن إليها بتعليمها وتأمين النفقة، وإذا ما كان هذا حال بعض الناس مع أهليهم فكيف تكون علاقتهم مع غيرهم، ومن لم يرتدع عن مثل تلك القبائح مع أقرب الناس إليه تُرى كيف يكون تعامله مع غيرهم؟!

إتقان المعاملة فنٌّ

كم من أناسٍ يكسرون قلب فلان ولا يُراعُون فلانًا ويزدرون فقيرًا أو يهزأون بمريضٍ، ولعلك ترى أحدهم مع كونه غارقًا في كل هذا الظلم والإفك يظن أن ما يفعله قوة وشهامة ولا يدري أنه هو المخطئ الذي يجب عليه أن يتوب إلى الله وأن من شرط التوبة أن يُعيد الحق إلى صاحبه أو يسامحه صاحب الحق، وجديرٌ بمن كان على هذه الدرجة من السوء والفساد أن يكفَّ عن التمادي في ذلك وأن يسعى في تخليص نفسه مما غمسها فيه من الشر قبل أن يُفضي إلى يوم القيامة فيكون الأمر عسيرًا جدًا، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلسُ فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ ويأتي قد شتم هذا وقَذف هذا (القذف كل كلمة تنسب إنسانًا أو أحد قرابته إلى الزنا) وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضَى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار" رواه مسلم

فهذه حقيقة المفلس والعاقل يربأ بنفسه أن يتعرَّض لهذا الموقف بل ينظر في أمر نفسه وفي تعاطيه مع إخوانه فإن إتقان العلاقات مع الآخرين فنٌ لا يُجيده كثيرٌ من الناس. وباختصارٍ إن إردت أن تكون ناجحًا في ذلك فلا تجعل نفسك في مقامٍ يُحوجك إلى الاعتذار من أحدٍ فعن أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولا تكلَّمنَّ بكلامٍ تعتذر منه غدًا" رواه البيهقي. ولكن إذا أخطأت فلا تتكبر عن الاعتذار فإن الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل.    

والحمد لله أولًا وآخرا.       

الوسوم