بيروت | Clouds 28.7 c

((أحداث ومواقف لا تنسى)) لـ للعميد فايز رحال

((أحداث ومواقف لا تنسى)) لـ فايز رحال

 

سلوك مثالي يحكمه الواجب والقانون

تتطلع الى فايز رحال كأنك تتطلع الى شخصية لبنانية تعيش خارج هذا الزمن. وتعمل خارج هذا الزمن، وتسير كأنها امتلكت زمام الأمر، بالارادة والتصميم على مواجهة الصعاب.

فايز رحال الذي وصل الى رتبة عميد في قوى الأمن الداخلي ترك في هذه المؤسسة، وفي مختلف الأدوار التي لعبها اسماً طيباً وذكراً حميداً، وإخلاصاً كبيراً، ونظافة كف يشهد له بها القاصي والداني. والعدو والصديق في آن معاً.

رحال من الضباط الاستثنائيين في هذا السلك. يعمل لكي يعمل، أي لكي يعطي. أي ليكون الفيصل بين الحق والباطل، بين الخير والشر، وبين النظافة الساطعة والتلوث في مياه لبنان الآسنة التي تحيط بنا من كل حدب وصوب.

رجل صادق. نهجه قويم. سلوكه مثالي. يقوم بالواجب الملقى على عاتقه خير قيام. كأنه يؤدي الصلاة. يتحرك ولا يخشى الوقوع في الخطأ. كأن الصواب هاجسه الذي يحركه أنى كان، وأنى توجه.

واحد من القلائل، من النادرين الذين لم يستغلوا موقعهم الوظيفي من أجل أغراض خاصة، بل كان رجلاً مسؤولاً بكل ما في الكلمة من معنى. يعرف تمام المعرفة صلاحياته، يتحرك بموجبها، ليصل الى الهدف المطلوب بعيداً عن الوقوع بالخطأ، بعيداً عن السلوك المنحرف، وبعيداً عن العشب العاقر الذي لا ينتج عنه أي اخضرار. او الذي يكون اخضراره اخضراراً زائفاً.

يتكلم بثقة بالغة. يكتب ما عاشه. وما كان عليه غير آبه بالآخر لا لشيء. إلا لأنه صادق. يروي الأحداث بشفافية بالغة لا يخشى إثرها لومة لائم. ولا يتطلع, ولا يتوقف الا أمام الحقيقة لأنها وحدها شغله الشاغل وغايته المثلى. التي لا غاية له سواها.

من خلال اطلاعنا على كتابه الصادر عن مؤسسة بحسون بعنوان ((أحداث ومواقف لا تنسى في مكافحة الجريمة والفساد)). يستنتج القارىء ان الرجل يدوّن تاريخاً من العمل الأمني النظيف الذي لا يعرف الكذب والتزوير، والذي يستعيد من خلاله أحداثاً مهمة كان لها ذلك الأثر في الحياة المعاصرة، وذلك الدور الذي تفاعل على وقع المستجدات والتطورات.

قيمة فايز رحال انه استطاع ان يقدّم نموذجاً مختلفاً. على الرغم من طبيعة العمل السياسي والأمني في لبنان، والتي لا تراعي الأصول المتبعة، والقوانين المفترضة، بل تسلك طريقاً مغايراً  لا يُراعي المصلحة العامة بقدر ما يراعي مصلحة الآخر او المصلحة الشخصية.

اختار رحال هذا المركب الخشن. واستغرق في تفاصيله من قمة رأسه الى أخمص القدمين، وذلك من أجل الوصول الى الحق، أكان عاماً ام خاصاً، ومن أجل تقديم نموذج لبناني مختلف ونادر، ولم يعتده اللبنانيون أصلاً.

الذي يعمل على تنفيذ القوانين دون مراعاة لفلان او فليتان، ودون الرضوخ لسلطة هذا النافذ او ذاك ينام مرتاح البال، ويتمكن من الحفاظ على ارادته وعلى حريته، وعلى قدرته على الحركة دون معوقات، ودون قيود تكرهه على فعل ما يريد.

رحال صاحب ارادة. ظل يتصرف منذ بداية عمله حتى آخر يوم قضاه في الوظيفة بما يمليه عليه الواجب، وبما لا يتناقض مع الأصول القانونية، وبما ينسجم مع رغبته في تقديم نموذج، يسلك طريقاً مستقيماً وسليماً.

يعرض العميد رحال في كتابه ((أحداث ومواقف لا تنسى)) مراحل متعددة من حياته المهنية منذ ان كان ملازماً حتى أمسى عميداً متقاعداً بأسلوبه البسيط، الذي يقول الأشياء كما هي دون فذلكة ومواربة، ودون ان يلجأ الى صياغات فنية قد لا تخدم الموضوع، وقد تبعده عن الحقيقة المرجوة من وراء هذا الكلام المفعم صدقاً والتزاماً وأخلاقاً عالية.

استهل كتابه بالكلام على بداية الحياة العسكرية عبر الانتساب الى المدرسة الحربية من خلال الكفاءة او الوساطة عارضاً شيئاً من حياة الطلاب داخل الحربية، مشيراً الى دور التنشئة في معهد قوى الامن الداخلي لأجل تأهيل الضابط في مجال حفظ الأمن وتنفيذ القانون، اضافة الى التعرف على أنماط الخدمة في قوى الأمن الداخلي.

وفي الفصل الثاني قدم خلاصات حول بعض التحقيقات في الجرائم الكبرى ذات التأثير العام. ومنها: توقيف رئيس احد التنظيمات الحزبية، صد هجوم مسلح على سراي البترون، محاولة اغتيال الرئيس كميل شمعون، مكافحة الجرائم الارعابية كإدراج ضباط ورتباء على لائحة الاعدام، حادثة اغتيال الرئيس رينيه معوض، محاولة اغتيال سماحة مفتي طرابلس، تنفيذ القرار القاضي باغلاق اذاعة ((صوت الحق)) لحزب التوحيد، حادثة اختطاف احد عمداء الجامعة الاميركية في بيروت، اضافة الى الكلام على عدد من الجرائم الافرادية ذات التأثير المحلي أي في المجتمع المحيط بالجريمة.

وعرض في الفصل الثالث دروساً مستقاة من بعض الأحداث الأمنية منها: الدور الايجابي لأجهزة الاستخبارات في استيعاب بعض التحركات الشعبية، والمحافظة على الأمن أولى من قمع مخالفات البناء، مخاطر تغليب العاطفة على القانون، اضافة الى ضريبة الالتزام بالقيم وروحية القوانين، والتدخلات السياسية في التحقيقات الجنائية.

وفي الفصل الرابع عرض موضوع ((الفساد)) ومن أبرز ما طرح من نقاط: مخالفة القضاء وعدالة القدر، ضغوطات لعدم التعرض لمخالفات البناء، وتعاطي بعض رجال السياسة مع قوى الأمن.

وفي الفصل الخامس كتب شيئاً من ((الوجدانيات والخواطر)) ومنها: حنكة العميد سامي الخطيب، فشل خطة وضعتها فتاة لحماية نفسها من السرقة، الفرار محور اهتمام السجناء، انا سليم الحص أمثل الوحدة الوطنية، عاطفة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والقائد مصلح اجتماعي.

وخصص الفصل السادس للمقالات التي نشرها في مجلة ((قوى الأمن)) منذ العام 2007 ولغاية 2016. وقد أخذت العناوين التالية: رحلة وعبر، طعم الدم والتنبؤ بالموت، أحاديثنا تتبدل مع الأيام، عائلات لبنان من كل الطوائف، ما بين الحياة العسكرية والتقاعدية، رحلتي مع والدي، وعندما يتجدد الأمل، اضافة الى ملحق خاص بالصور.

يستهل رحال كتابه بالكلام على الحلم بدخول الكلية الحربية. أكثر الآباء في تلك المرحلة كانوا يتمنون ان يدخل أحد ابنائهم هذه الكلية نظراً لأهميتها وللمكانة التي يحتلها الضابط في المجتمع اللبناني.

وبما ان والد رحال مختار فإن لديه علاقات تتيح له الوصول الى أحد النافذين من الذي يؤمن لابنه الدخول الى الكلية الحربية. لكن هذا النافذ وعده ثم أخلف بوعده. لكن الطالب رحال تقدم لامتحان الدخول وتشاء الظروف ان يفوز، على الرغم من فشل الوساطة التي كان يعتمد عليها.

ودخل رحال الى الكلية التي فتحت أمامه عوالم مختلفة. ما كان يمكن ان تنفتح لولاها. والتجربة وحدها تكشف مدى التزام المرء بالقيم التي يحملها، ومدى استجابته للمغريات المتعددة التي لا تدفعه الى التخلي عن كل المثل التي تربى عليها فحسب، بل تفقده شخصيته، وقيمته كإنسان مسؤول ومحترم.

وبما ان العميد رحال من هذه الطينة التي تتجوهر مع مرور التجارب. وحفاظاً على شخصيته التي تمكنت من رفض حضورها واحترامها، لم يستجب للضغوطات المختلفة، أكانت ضغوطات سياسية او ضغوطات مادية.

وفي هذا السياق يعرض حادثة تثبت مدى مصداقيته، ومدى التزامه بالقيم الاخلاقية والدينية، وذلك لأنه يسمي الأشياء بأسمائها، والأشخاص بأسمائهم الحقيقية، دون مواربة او خوف.

ومن المواقف الكثيرة التي تعرّض لها العميد رحال نختار هذه الحادثة التي تعبر عن الخلفية القانونية حيناً، والخلفية الانسانية حيناً آخر، فالانسان مهما كان حريصاً على المسائل القانونية، فلا يمكن ان يتخلى عن الحس الانساني الذي يحركه دائماً بالاتجاه الصحيح.

فقد اتخذت قيادة قوى الأمن الداخلي قراراً بقمع جميع مخالفات البناء والاعتداء على الأملاك العامة او الخاصة. وتنفيذاً لهذا القرار منع صاحب مدينة الملاهي في بيروت من بناء طابق دون ترخيص قانوني، وبعد مداخلات كثيرة، وضغوطات أكثر، واغراءات مادية تيقن صاحب مدينة الملاهي ان هذا الأمر لن يمر. فما كان منه إلا ان حاول تشويه صورة العميد رحال الوطنية. فزعم حيناً انه منتم الى حركة ((أمل)). وحيناً آخر صوره معادياً لأهالي بيروت. وهذا تحريض مذهبي مسيء وواضح. لكنه لم يكترث بل أعطى أمراً بتركيز دورية ثابتة أمام عقاره، كيلا يفكر باستغلال أية فرصة لاتمام مخالفته.

وبعد ان استشهد سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد اجتمع المدير العام لقوى الأمن الداخلي مع قائد شرطة بيروت وبحضور العميد رحال، وبعد ان أشاد بدوره في قمع مخالفات البناء، في رأس بيروت على الرغم من التدخل الشخصي لسماحة المفتي، وأردف قائلاً: أما اليوم وبسبب استشهاده، وبسبب حبنا الكبير كباقي اللبنانيين لسماحته ووفاءً وتقديراً له. فنحن، أي انا والمدير العام وقائد الشرطة  اتفقنا على الأخذ برغبة المفتي الشهيد واعتبارها الآن وصية يجب تنفيذها، لذلك نأمر بالسماح لصاحب مدينة الملاهي بمتابعة عمله في بناء طابقه.

 هذا الموقف دفع أحد أصحاب الورش الموقوفة الى الطلب بالمعاملة، بالمثل، وخصوصاً ان مخالفته، عبارة عن غرفتين على سطح بناء قديم في منطقة الظريف، وهي للسكن, وهي مخالفة بسيطة أمام مخالفة صاحب مدينة الملاهي.

وهذا الواقع دفع العميد رحال الى الاستنتاج المنطقي. بأن ((قوى الأمن تبقى قوية قادرة عندما تتقيد بالأصول القانونية، وتضعف، ويغلب على أمرها عندما تتجاوز القانون)).

ويذكر العميد رحال خلال عمله في طرابلس بأن فاروق المقدم الذي أصبح القوة الأبرز في عاصمة الشمال، عمل على جعل منزله مربعاً أمنياً لا يستطيع احد اختراقه.

لا شك ان هذا الوضع كان شاذاً، وخصوصاً ان الحدث كان في عام 1973 واذا تم السكوت عنه، فهذا يعني تعريض البلد لفلتان أمني كبير.

وعلى الرغم من القوة المادية والمعنوية التي كان يمتلكها المقدم آنذاك، إلا ان قيادة قوى الأمن الداخلي صممت على نزع هذه الحالة الشاذة حرصاً على استباب الأمن وكيلا يتعرض البلد الى خضات تسيء اليه والى المواطنين أيضاً.

وبعد أخذ ورد، تمت مداهمة المنزل وتوقيف فاروق المقدم وعناصره، وعاد الهدوء الى عاصمة الشمال، بعد هذه التجربة التي كانت مقدمات للأوضاع غير الطبيعية التي عاشها اللبنانيون، بعد اندلاع الحرب اللبنانية السيئة الذكر.

كما ان رحال لم يستجب للضغوط التي كان يمارسها عدد من القيادات السورية، وتحت اسم قوات الردع العربية، وذلك تأكيداً لشخصيته المستقلة المؤمنة بضرورة محاربة الفساد أياً يكن مصدره.

فخلال عمله كآمر لفصيلة شرطة زقاق البلاط، لاحظ ان صاحب بناية مجاورة للمركز يحفر بئراً ارتوازية لبنايته، فما كان منه إلا ان كلف دورية للعمل على قمع هذه المخالفة.

واثر ذلك توجه صاحب البناية الى المركز قائلاً بأن لديه بطاقة من مسؤول كبير. وسحبها ليطلع العميد عليها إلا انه رفض قائلاً ((البطاقة لا تغني عن الرخصة)). وعندما راح صاحب البناية يهدد ويتوعد أمر العميد بتوقيفه.

وإثر التوقيف اطلع على البطاقة فإذا هي موقعة من مسؤول أمني كبير في سورية.. وبعد مداخلات متعددة أفرج عنه بشرط ان يكمل عمله، بعد ان يحصل على رخيصة تجيز له ذلك.

نزار قباني الشاعر الرائع والجميل سألته مرة: ((لماذا لا تكتب مذكراتك)). أجاب: لقد عرضت علي إحدى الجرائد الخليجية كتابتها لقاء مبلغ مالي أحدده أنا بنفسي. إلا انني رفضت. سألت: لماذا؟ أجاب: (( لأنهم لا يريدون المذكرات بحد ذاتها بل يريدون الجانب الفضائحي منها)).

وعلى هذا الأساس: لماذا يلجأ العميد رحال الى كتابة مذكرات او ما يشبه المذكرات التي تتناول مهامه كمسؤول في غير مكان. وفي غير اتجاه؟ يلجأ الى هذا الفعل لأنه يعتز بهذا التاريخ، وبهذا الدور الذي قام به، ولأنه ليس فيه ما يعتبر نقيضة او ما يسيء الى شخصيته. وبالتالي الى ما يحمله من مثل وقيم.

فايز رحال ذلك العميد المتقاعد الذي قدّم نموذجاً مختلفاً، يعبر عن صدق انتمائه، وعن عمق التزامه، وعن خلفية أخلاقية تحصنه، وتبعده عن امكانية الوقوع في فخ الفساد، ومنزلقاته الخطرة.

((أحداث ومواقف لا تنسى في مكافحة الجريمة والفساد)) كتاب يستحق ان يقرأ، لأنه لا يغني المكتبة العربية ذات البعد الأمني فحسب، بل لأنه يبعث الأمل في نفوس اللبنانيين، بأن هناك امكانية للتغيير والاصلاح، اذا توفر مسؤولون يعرفون كيف يحاربون الفساد وكيف يعيدون الثقة بالوطن، وبالمستقبل الذي ينتظر على مقربة من الرمادي ليكون للفجر انبلاجه المبين.

 

لامع الحر

الوسوم