بيروت | Clouds 28.7 c

الجهاد بالبيان... بواعث وضوابط / بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 10 أيلول 2020

 

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {ولتكن منكم أمةٌ يدعُون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} سورة آل عمران.

وعن أبي سعيدٍ الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرًا فليُغيِّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" رواه مسلم.

إن البواعث الدَّاعية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عديدةٌ منها: رجاء ثواب الله العظيم، ومنها خوف العقاب من ترك هذا الواجب وفي ذلك تعريضٌ للنفس لعذاب الله وعقوبته في الدنيا والآخرة، فقد روى أبو داود عن سيدنا أبي بكرٍ الصدِّيق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من قومٍ يُعملُ فيهم بالمعاصي ثم يَقدِرون على أن يُغيِّروا فلا يُغيِّرون إلا يوشك الله أن يَعُمَّهم بعقابه". ومن البواعث: النصيحة للمؤمنين العصاة والرَّحمة لهم ورجاء إنقاذهم مما أوقعوا فيه أنفسهم من التَّعرض لسخط الله، ومنها: إجلال الله وتعظيمه وشدة محبته وأنه تعالى يستحق أن يُطاع فلا يُعصى وأن يُشكر فلا يُكفر به، ولذلك كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجلِّ الأعمال وأعظم الطَّاعات.

الجهاد البياني

 وليس الجهاد فقط هو مقارعة العدو بالسلاح بل يكون الجهاد أحيانًا بالبيان وما أحوجنا إلى هذا النوع من الجهاد في زماننا الذي نعيشه فقد انتشر الفساد وعمَّ الضلال واستشرى الجهل في البلاد ولبَّس الشيطان على كثيرٍ من الناس فزيَّن لهم أعمالهم فظنوا الباطل حقًا فانتهجوه وراحوا يُدافعون عنه ويُروِّجون له حتى اعتقد بعضهم الكفرَ إيمانًا والحلالَ حرامًا، فهم داخلون في حقيقة الأمر فيمن قال الله تعالى فيهم: {قل هل نُنَبِّئكم بالأخسرين أعمالًا الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعا} سورة الكهف.

وأمثال هؤلاء في مجتمعنا كثيرٌ جدًا ولذلك نحن بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى التصدي لأمثال هؤلاء بالعلم عملًا بما أمر الله به وأرشد إليه نبينا صلى الله عليه وسلم مع مراعاة الحكمة وضمن الضوابط التي بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دلَّ عليها حديث الإمام مسلم المتقدم، وهو حديث جليل لا يعرف حقيقة معناه كثيرٌ من الناس فجديرٌ بنا أن نوضح مضمونه فنقول: قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى" أي علِمَ فهو من رؤية القلب، وهذا التأويل سائغٌ في لغة العرب قال الشاعر: رأيتُ اللهَ أكبر كل شىءٍ، أي علمت أن الله أكبر قدرًا من كل كبير. وقول النبي: "منكم" خطابٌ للأمة كلها لا للسَّامعين فقط كما في قوله تعالى: {كنتم خيرَ أمةٍ أُخرجت للنَّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} سورة آل عمران. ويُفهم من هذا أنه لا يُشترط في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون كامل الحال فإنه وإن كان مُقصِّرًا في أداء الواجبات واجتناب المحرَّمات يجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بل وإن كان المرء مرتكبًا خلاف ما يأمر به فإنه يجب عليه شيئان أن يأمر نفسه وينهاها وأن يأمر غيره وينهاه، فإذا أخلَّ بأحد الأمرين لا يسقُط الآخر، وكذلك لا يختصُّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الوِلايات والمناصب العالية أو المشايخ والمفتين بل ذلك ثابتٌ لآحاد المسلمين، فليس لأحدٍ أن يترك هذا الواجب بدعوى أنه ليس من ذوي العمائم أو ليس ممن لهم جاهٌ في المجتمع فإن العاميَّ مكلفٌ بأداء الواجبات واجتناب المحرَّمات كما أن العالم والسلطان والقائد والرئيس مكلَّفون أيضًا فوجب على الجميع مراعاة شرع الله.

ضوابط مهمَّة

قال النووي في "شرح صحيح مسلم": "واعلم أن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضُيِّع أكثرُه من أزمانٍ متطاولةٍ ولم يبق منه إلا رسومٌ قليلة جدًا، وهو بابٌ عظيم به قِوام الأمر (نظامه وعماده) ومِلاكُهُ (الذي يقوم به تأكيد لقوله: قوام الأمر) وإذا كثُر الخَبَثُ عمَّ البلاء الصَّالح والطَّالح، وإذا لم يأخُذوا على يد الظالم (أي يمنعوه بكف يده عن الظلم) أوشك أن يعُمَّهم الله تعالى بعقابه {فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تُصيبهم فتنةٌ أو يُصيبَهم عذابٌ أليم} سورة النور. فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضا الله عزَّ وجلَّ أن يعتني بهذا الباب فإن نفعه عظيم لا سيما وقد ذهب مُعظمه ويُخلص نيته ولا يهابنَّ من يُنكر عليه لارتفاع مرتبته فإن الله تعالى قال: {ولينصُرنَّ اللهُ من ينصُره} (أي من ينصر دينه وشرعه)".

 ولا شك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصرةٌ للدين وذلك ضمن مراعاة الأحوال التي بيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم فيُنكر أي يُغير عند الاستطاعة بيده، أي يزيله بنفسه وليس شرطًا خُصوص اليد الجارحة وإنما المراد باليد في الحديث القوة وهذا قد يحصُل بنظرةِ غضبٍ ينظُرها إلى ولده مثلًا فيترك المنكر فيكفي لحصول المراد، وليس المعنى أن يعتدي بالإرهاب المذموم على الناس فيُفجِّر مسكنًا يقطنه مئات الأبرياء لأن في أسفله متجرًا يبيع ما حرَّم الله أو ملهىً للفسق والمجون، أو يرجم امرأةً لأنها لا ترتدي الحجاب أو يسجن شابًا لأنه يتعاطى التَّدخين كما يفعل بعض الجهلة من أدعياء العمل الإسلامي اليوم ويغفلون أنه يُشترط في إنكار المنكر أن لا يؤدي إلى منكرٍ أعظم، فإن خِيف أن يؤدي إنكاره إلى منكرٍ أكبر يعدلُ إلى الإنكار باللسان أي يأمر فاعلَ المنكر بتركه بحكمةٍ وكلامٍ طيبٍ عملًا بقوله تعالى {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} سورة النحل. فإن عجز عن تغيير المنكر بيده ولسانه بأن كان يعلم أنه لا تأثير له في نفوس الناس سقط هذا الواجب عنه وبقي أن ينكر بقلبه، ومعنى الإنكار بالقلب الكراهية بالقلب لهذا المنكر وليس ذلك تغييرًا في الحقيقة ولكن هذا ما في وسعه وربنا تعالى يقول: {لا يُكلِّف الله نفسًا إلا وُسعَها} سورة البقرة. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم "وذلك أضعف الإيمان" أي أقله ثمرةً فليس وراء ذلك مرتبةٌ أخرى، فجديرٌ بنا جميعًا أن نتقيد بما نبّه إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وإلا فمن كان عمله على خلاف الحكمة أفسد بدل أن يُصلح.

والحمد لله أولًا وآخرا.

الوسوم