بيروت | Clouds 28.7 c

خاص الشــراع / تحذيرات ماكرون و لودريان: جرس انذار مدوي وفرصة للبنان "النموذج"

مجلة الشراع 31 آب 2020

التحذير الذي اطلقه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عشية زيارته الثانية الى لبنان حول احتمال نشوب حرب اهلية فيه , والذي اعقب تحذير وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان حول خطر زوال لبنان, هل جاءا مصادفة مع الاحتفال بالمئوية الاولى لاعلان  لبنان الكبير الذي كانت فرنسا  أطلقته في العام 1920 وتولت دور الراعي لولادته حتى استقلاله عنها عام 1943؟

وهل ان عجز الطبقة السياسية اللبنانية عن ايجاد الحلول العاجلة للازمات المتراكمة يكفي وحده لاطلاق مثل هذا التحذير الكياني ؟ ام ان هذا الكلام عن فساد متأصل في البنيان اللبناني منذ نشأته وغياب الاصلاح ليس سوى تبريرات لخطوات أخطر تطال لبنان الكيان فعلاً وتعرضه لازمات غير مسبوقة في تاريخه؟

بعض المقاربات وضعت ما قاله ماكرون ولودريان في اطار ايجابي ، هدفه حث اللبنانيين على القيام بالاصلاحات المطلوبة والتزام سياسة النأي بالنفس وعدم الانجرار الى الوقوع في أفخاخ تنصب لكل مكوناته ، والحفاظ على النموذج التعددي اللبناني كما وصفه الرئيس الفرنسي لضمان عدم الوقوع في ما حصل في سورية وليبيا، توكيداً منه على الالتزام بحماية لبنان وتحصينه ومنعه من الانزلاق في الحرب الاهلية وبما يهدد بزواله كما عبر وزير خارجيته.

وفي المقابل ،فثمة الكثير من التفسيرات المناقضة لما قاله الرئيس  الفرنسي ووزير خارجيته ، وتشير الى ان ماكرون لم يجهر بما يعرف من معلومات واجواء حول ما يحضر للبنان ، وان الجهد الفرنسي يتركز على حجز حضور قوي لها في غربي اسيا، في موازاة الحضور الروسي في سورية وطبعا الوجود الاميركي في اكثر من دولة ، فضلاً عن الاقتراب جغرافيا والى اقرب مسافة لها من تركيا التي قامت بما قامت به ضد باريس في ليبيا .

التفسيرات تلك ، يتناول بعضها الجانب الداخلي لاسباب ما يحصل ، ويتعلق بخلل النظام السياسي اللبناني وعدم صلاحيته لمعالجة الازمات الناشبة سواء بشكل استباقي قبل حصولها او بشكل جدي وفعلي بعد اندلاعها. وابلغ مثال على هذا الامر قد يكون في قطاع الطاقة الذي فشلت السلطة السياسية بكل الحكومات المتعاقبة عليها منذ العام 1990 تاريخ انتهاء الحرب وحتى اليوم في تأمين الكرباء بشكل منتظم ودائم على الرغم من الاموال الطائلة التي هدرت في هذا القطاع.

ويذهب هؤلاء الى القول  ان طبيعة لبنان السياسية وتركيبته الفئوية مناطقياً وطائفياً ومذهبياً وحزبياً ، فرضت من ضمن ما فرضته وجود مرجعية خارجية على غرار المتصرفية التي حكمت لبنان الصغير في القرن الثامن عشر ، فلا تنتظم الامور الا بالعودة الى مثل هذه المرجعية سواء كانت بشكل مرجعية غازي كنعان او جيفري فيلتمان او غيرهما ، من اجل ان يستقيم العمل على مستوى البلاد كلها سياسياً واقتصادياً وحتى امنياً واجتماعياً, وفي غياب مرجعية آمرة على طريقة عمل المفوض السامي ايام الانتداب الفرنسي , فان المشكلات لن تتوقف والخلاف لا بل الانقسام يمكن ان يشمل كل ملف وقضية وموضوع مطروح حيوياً كان او عادياً.

وفي رأي اصحاب هذه النظرة فان الكلام عن السيادة في هذا السياق هو وجهة نظر , وما تجارب الرؤساء السابقين في كل المؤسسات سوى أمثلة دامغة على ذلك ، بدءاً من اختيار الرئيس ب"كلمة سر" ذائعة الصيت مروراً  بتحديد الأولويات ورسم السياسات ووصولا الى التعيينات والمحاصصة والزبائنية التي تكاد تطال كل شيء في بلاد الارز.

مقابل هذه التفسيرات، ثمة مقاربات اخرى في الاطار نفسه، تتعلق ببعض الطروحات التي بدأت تطل برأسها مؤخراً وتتحدث عن اعتماد الفدرالية في النظام اللبناني بحيث تقوم كل جماعة من خلال تمثيلها للمنطقة او الطائفة او المذهب او الحزب بفرض سلطتها على اماكن تواجدها وسيطرتها ، ومن خلال التماهي مع بعض التجارب من النوع الذي حصل في العراق في اقليم كردستان ، والذهاب ربما لدى بعض الاطراف التي كانت رفعت خلال الحرب البغيضة شعار "من المدفون الى الكرنتينا" الى نموذج الانفصال الذي فرض على السودان بفصل جنوبه عنه وسط ظروف قاهرة وغير طبيعة عربياً سمحت لمثل هذا الامر بالحدوث والتحول الى امر واقع.

اما الأخطر في القراءات العديدة  لما وراء الأكمة في  كلام وزير الخارجية الفرنسي عن زوال لبنان ، فيستند الى ما يدور في المنطقة حالياً من حروب وأزمات حولت دولاً عديدة الى دويلات متقاتلة  وبؤر صراعات طالت النسيج الاجتماعي للكثير من الدول التي لم تتعرض حتى الان الى تقسيم لكياناتها المعلنة منذ اتفاقية سايكس بيكو السيئة الذكر والتي دفعت بعض المراقبين والسياسيين وعلى رأسهم النائب السابق وليد جنبلاط الى الترحم عليها , بالنظر الى ما نشهده في المنطقة وما قد نشهده في اوقات قريبة ، حيث يجري العمل على" تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ "وفق التعبير – المصطلح الذي يستخدمه الرئيس نبيه بري .

وفي هذه القراءات المستندة لشواهد حية وبراهين واقعية، ما يشير الى بدء العمل لفرض ما كان سرب في اعقاب الغزو الاميركي للعراق في العام 2003 من خرائط لتقسيم دول المنطقة , وهي خرائط اعدت في دوائر وزارة الدفاع الاميركية ( البنتاغون) من اجل فرضها على دول المنطقة وبشكل يضمن لواشنطن اهدافها الاستراتيجية في حماية امن اسرائيل والنفط.

الخرائط المشار اليها ، ولدى تسريبها في ذلك الوقت سبقت ما سمي "ثورة الربيع العربي" وما تلاها من حروب اطاحت بانظمة وقسمت دولاً وإن بطريقة غير رسمية الى دويلات ، وليس ما حدث في سورية والعراق واليمن وليبيا سوى امثلة على ذلك. وكل ذلك كما يبدو مقدمات كما يرى اصحاب هذا الرأي لوضع خرائط البنتاغون كما يرى اصحاب هذه المقاربة  موضع التنفيذ بعد ان تم قطع مسافة على طريق الوصول اليها.

وبطبيعة الحال ، فان مثل هذا التوجه البالغ الخطورة يجري العمل على فرضه في منطقة طالما كانت تتوق وتعمل وتناضل للوحدة والتكامل كما كان يتم التعبير عن ذلك ايام المد القومي والقيادة التاريخية للزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وهو توجه يخدم اول من يخدم الكيان الصهيوني وامنه ، كونه سيتربع كدولة وسط دويلات سيجري العمل على إحداثها وتوليدها على حساب اتفاق سايكس بيكو. وهو توجه يحاكي ما كانت اسرائيل تسعى اليه دوماً وهو اغراق جوارها والمدى المحيط بها مباشرة وغير مباشرة  في مشاكل لا تنتهي وازمات مستولدة وتفتت متواصل للمجتمعات القائمة فيهما.وما تعاطيها مع الفلسطينيين منذ توقيع اتفاقية اوسلو وحتى اليوم ، سوى اشارة الى ذلك من خلال الفصل وبكل السبل والوسائل بين الضفة الغربية وغزة والعمل على تغذية الانقسامات بين ابناء الشعب الواحد واستغلالها.

اما في لبنان ، فان القوة غير المسبوقة لحزب الله في مواجهة اسرائيل , يتم العمل على تجويفها وافقادها فعالياتها وتأثيرها كسلاح ردع فعال ، وتحويلها الى سلاح غير قابل للاستخدام من خلال اغراق هذا البلد بشتى انواع الازمات والانقسامات, ووصولا حتى كما يرى اصحاب هذا الرأي الى تقسيمه وزواله كما ورد على لسان وزير الخارجية الفرنسي.

ولبنان جزء من المنطقة العربية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ، وما يصيبها يصيبه وينعكس عليه مباشرة ، اما استقراره فرهن باستقرارها , ومع ازدحام "الممر"اللبناني اليوم بالمبعوثين الدوليين ، فان الاسئلة المطروحة حول خفايا هذا الازحام والاهتمام المستجد به مشروعة ليس على قاعدة رفض الاصلاح والعمل على ضرب الفساد ووأده، بل من منطلق الاضاءة على كل جوانب المشهد اللبناني وخيوط ترابطه مع المشهد العام في المنطقة العربية والتي مهما قيل  عن ضعف ارادات ابناء شعوبها ودولها ، سيكون لها الكلمة الفصل عاجلاً او اجلاً .

وفي كل الاحوال ، فان ما يعمل عليه ماكرون لا يمكن النظر اليه  الا باعتباره فرصة .

فرصة للحفاظ على النموذج اللبناني بعناصر قوته وليس بعوامل ضعفه. ولحماية الغنى المتمثل في التعدد والتنوع على مستوى عدد الطوائف والمذاهب وفي اطار السلم الاهلي والعيش المشترك.

فرصة تتيح للبنان تمرير الوقت القاتل بأقل الخسائر الممكنة ، بانتظار سلة الحلول الشاملة في المنطقة .

فرصة للسير ببرنامج اصلاحي يتكفل بمواجهة الفساد ووأده ومحاسبة المرتكبين والسارقين واستعادة المال المنهوب.

وبصرف النظر عما اذا كان ماكرون كاشف اللبنانيين بكل ما يعرفه من اسرار وخفايا ام انه لم يكاشفهم  بها مفضلاً الاكتفاء بجرس انذار قرعه بقوة من اجل حث اللبنانيين والاطراف المؤثرة فيه من مغبة الاستمرار في مسلسل الازمات المتلاحق ,فان العمل ينبغي كما قال مسؤول كبير ل"الشراع" ان يبدأ من اجل مد اليد الى المسعى الفرنسي النوعي, وهو تاريخي ويكاد يكون بمستوى ما قامت به باريس قبل قرن من الزمان.

الوسوم