بيروت | Clouds 28.7 c

الانتفاضة الليبية: كش أردوغان !

بقلم محمد خليفة

مجلة الشراع 26 آب 2020

منذ عدة سنوات والنزاع على شرعية الحكم في ليبيا على أشده بين الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر في شرقي البلد ، وحكومة الوفاق برئاسة فايز السراج في الغرب . واتخذ النزاع طابعا سياسيا تارة وعسكريا تارة أخرى . وامتد الانقسام والنزاع الى الساحة الدولية ، دون حسم أو حتى حل وسط ، فكل من الطرفين يجد من يدعمه ، إلى أن قرر الشعب الليبي حسم هذا النزاع بنفسه ، فانتفض بقوة يوم الاحد الماضي 23 اغسطس ونزل للشارع مطالبا باسقاط حكومة الوفاق برئاسة السراج ومن معها من ميليشيات عسكرية تسيطر بالقوة على العاصمة طرابلس وغرب ليبيا . وهاجمت الانتفاضة مؤسسات السلطة وحاصرت منزل فايز السراج ، وطالبته بالاستقالة .  

والمثير في المشهد أن الانتفاضة الجديدة صورة طبق الأصل لانتفاضة 17 فبراير 2011 .

ساحتها الرئيسية، ساحة الشهداء التي كان اسمها الساحة الخضراء، والشعار ذاته (الشعب يريد اسقاط النظام) .

ولم يكن ينقص هذا التطابق في المشهدين سوى ظهور فايز السراج مخاطبا المنتفضين مهددا ، وآخذا عليهم التظاهر بدون ترخيص من الشرطة ، ومذكرا بالقانون ، ومتوعدا بعقاب رادع دفاعا عن (الدولة) التي قال إنه لن يسمح بإسقاطها ! مكررا مشهد القذافي يوم 22 فبراير 2011 وهو يقرأ عليهم فقرات من القانون الجنائي ، ويقول إنه ليس ضد التظاهرات السلمية ، إذا كانت للتضامن مع غزة والعراق ! كرر السراج نفس المنطق ، وزعم أنه ليس ضد التظاهرات السلمية ، ولكنه ضد هذه التظاهرات ، لأنها خرجت عن سلميتها ، وتستهدف اسقاط الدولة .  

وكما حرض القذافي قواته وأنصاره على مهاجمة المحتجين وقتلهم ، فقتلت الكثير من الذين سماهم بالمندسين والجرذان والمتآمرين ، قتلت قوات وزارة الداخلية التي يتولاها حاليا المدعو فتحي باشآغا عددا كبيرا (غير معروف بالضبط ) من المتظاهرين ثم اتهمت السلطة (مندسين) باستعمال السلاح ! ولكن المتظاهرين كثفوا نزولهم الى الشارع وطالبوا باسقاط السلطة ، وأحرقوا صور رموزها ، وخصوصا السراج ، وخالد المشري رئيس ما يسمى مجلس الدولة ، وهو قائد ميليشيا ، وكذلك أحمد معيتيق عضو المجلس الرئاسي .    

  والواقع أن "الثوري المزيف فايز السراج" أقل قيمة ووطنية من سلفه القذافي الذي - على الأقل - حرر ليبيا من القواعد الاميركية والبريطانية عام 1970 ، بينما يفتح هذا بلاده على مصاريعها للاحتلال التركي ، ويسلم مفاتيح طرابلس لاردوغان ، لينهب ثرواتها ، وينشر سلطته الفعلية عليها بواسطة عشرات آلاف المقاتلين المرتزقة المتعددي الجنسيات ، من السوريين والصوماليين والتركمان والدواعش .

وكما فاجأ الليبيون القذافي والعالم عام 2011 بثورتهم ، يفاجئون اليوم السراج وأردوغان والعالم بثورتهم الوطنية ، التحررية .

ثورة شعبية عارمة تشمل معظم المناطق التي تحكمها حكومة الوفاق المنتهية الصلاحيات ، أطلق عليها الناشطون الليبيون (ثورة الفقراء)  وخصوصا طرابلس والزاوية ، وصبراتة ، ثم امتدت الى مدينتي مزدة والأصابعة. وهي ايضا ثورة وطنية ذات أسباب سياسية وتحررية. ويخطىء خطأ فادحا من يعتقد أنها ردة فعل غاضبة على سوء الادارة والجوع ونقص الخدمات فقط ، على الرغم من مشروعية ذلك ، حيث شارفت الطبقات الوسطى والفقيرة في طرابلس والمناطق الغربية على المجاعة ، واختفى البترول والكهرباء في بلد من أغنى دول العالم بالطاقة ، وغابت السلع الاساسية ، وانهار سعر العملة ، وارتفعت البطالة .

إلا أن كل هذه العوامل المحفزة لا تخفي أيضا الدوافع والعوامل السياسية الواضحة في متن المشهد ، الظاهرة في صميم اللافتات والهتافات والشعارات التي يرددها المحتجون :

- نريد تغيير النظام، وانتخابات حقيقية نيابية ورئاسية ، لا مجرد تغيير حكومة ، كما وعد السراج . ( نبو عهد جديد ) . (حكومة السراج .. حكومة بط ودجاج) ! 

- مهاجمة الاتراك و"المرتزقة" السوريين بهتافات صارخة ( السوري يقبض بالدولار .. يا للعار يا للعار ) وهو شعار يذكر السلطة والسراج بأنهم فقراء وجوعى ، بينما تدفع مرتبات المقاتلين السوريين وغيرهم من الاجانب بالدولار .

- ظهر هتاف معبر ( ليبيا لا شرقية ولا غربية ... وحدة وحدة وطنية ) .

- ظهرت فيديوهات تصور مشاركة كثيفة للنساء كما في لبنان والعراق ، وظهرت عجائز يحرضن الشباب على الثورة لتحرير بلادهم من الاتراك ، وهتفت احداهن باكية : ( ليبيا... ليبيا... ليبيا يا ولاد ) ، وهتفت أخرى (شبابنا ماتوا بحرب في البر، وغرقوا أثناء الهروب في البحر، وأموالنا ( سرقها الأتراك والسوريون ) .

- هتف المحتجون «نبو دولارات زي الزلمات»، أي نريد دولارات مثل الأزلام ، في إشارة إلى المرتزقة الأجانب الذين دفعت بهم أنقرة للحرب .

ثورة تحرر وطني لا انتفاضة جوع

وأكد منسقون وناشطون ليبيون في طرابلس أن الانتفاضة الشعبية لم تحدث صدفة ، بل حدثت بتخطيط مسبق وعمل منظم . وأكد خالد العماري ، أحد المنسقين ( إنهم خططوا للقيام بتحويل الثورة لعصيان مدني ، واستمرار الشارع في التظاهر  الى أن تتحقق المطالب المشروعة ) ، مؤكدا أنه ( آن الأوان لرحيل حكومة الوفاق الفاسدة والعميلة ) .

وقال المحلل السياسي  محمد الترهوني إن ما جرى في طرابلس من مظاهرات سلمية ، جاء رد فعل لتردي الأوضاع المعيشية واستفحال سيطرة المرتزقة الأجانب ومليشيات الوفاق على مفاصل الدولة بالعاصمة طرابلس ) ، أي نتيجة حزمة من العوامل الاجتماعية والمعيشية والوطنية تشبه حزمة الديناميت شديد الانفجار .

وأشار إلى أن أسباب الانتفاضة ترجع الى رؤية الليبيين لمقدرات بلادهم تنهبها حكومة الوفاق الفاسدة ، وتضعها بتصرف المليشيات والمرتزقة . كما لفت إلى أن المظاهرات ستتطور الى عصيان مدني شامل ، لعدم وجود مؤشرات جدية على الاستجابة  لمطالب الحراك . وأردف ( التظاهرات هي بداية نهاية حكم الوفاق ) .

ولقيت الانتفاضة ردود فعل سريعة وواسعة في العالم منذ لحظتها الأولى ، وحظيت بتأييد من بعثة الامم المتحدة ومن سفير الولايات المتحدة ومن الجيش الوطني الليبي ، ومن البرلمان ، والحكومة المؤقتة ، ومن منظمات دولية وحكومات أو منظمات حقوقية كثيرة ، وطالبت كل هذه الاطراف بتشكيل لجنة تحقيق في جرائم قتل واعتقال وخطف المتظاهرين السلميين ، ومحاسبتهم . وقالت اللجنة الوطنية لحقوق الانسان الليبية إنها في صدد توثيق مقتل واصابة عشرات المحتجين برصاص ميليشيات السلطة ، وتوثيق حالات اعتقال كثيرة للناشطين المتهمين بتنظيم الانتفاضة الجديدة .

وكيفما كانت نهاية الانتفاضة فإنها في الواقع كشفت زيف ما يسمى حكومة الوفاق وعرتها من شرعيتها المزيفة ، ومزاعمها عن حماية الشعب الليبي وتبني خط الثورة على النظام السابق . وأظهرت الانتفاضة أن الميليشيات التي تسيطر على طرابلس يقودها معادون لشعبهم ، ومستعدون لقتل من يتمرد على سلطتهم ، وارتكاب كل الجرائم للحفاظ على امتيازاتهم ومصالحهم .

ويعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أكثر المتضررين من الانتفاضة لأنها موجهة ضده مباشرة  وتهدد مخططاته . وإذا سقطت حكومة الوفاق ، وغاب السراج عن المسرح فإن كل ترتيباته وخططه السياسية والاقتصادية والعسكرية في ليبيا ستتهاوى وتسقط دفعة واحدة ، وتضع نهاية لأحلامه ومشاريعه للاحتفاظ بليبيا ، والحاقها بمناطق نفوذه في سورية والعراق وقبرص ، وخططه للتمدد الى شمال افريقيا انطلاقا من القاعدة الرئيسية في ليبيا . بينما يعتبر ما جرى نصرا كبيرا لمصر وحليفه خليفة حفتر .

هذا يعني أن كل شيء سيتغير بعد انتفاضة 23 اغسطس ، وأن الاوراق في الأزمة الليبية قد خلطت واختلطت لغير صالح الوفاق وتركيا . فالشعب حين يتدخل ويقول كلمته يسكت الآخرون . ويلاحظ أن تركيا كانت تحشد قبل الانتفاضة بساعات وأيام المزيد من قواتها العسكرية برا وبحرا لمهاجمة مصراتة ، وزار وزيرا الدفاع التركي والقطري طرابلس للاشراف على الخطة تحديا للخط الاحمر الذي أعلنه الرئيس المصري في مصراتة ، لكن الانتفاضة أوقفت الهجوم المحتمل ، ونقلت التحدي الى الداخل ، في عقر دار السلطة العميلة . وأصبح بعض المراقبين يتنبأون لفايز السراج نهاية تشبه نهاية القذافي قبل تسع سنوات بأيدي الغاضبين والمحتجين !

الوسوم