بيروت | Clouds 28.7 c

دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك / بقلم الشيخ أسامة السيد

 

مجلة الشراع 7 آب 2020

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {تلك حدود الله فلا تَعتَدوها ومن يتعَدَّ حدود الله فأولئك هم الظالمون} سورة البقرة.

وعن أبي محمدٍ الحسن بن علي بن أبي طالب قال: حفظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يَرِيبُك إلى ما لا يَرِيبُك" رواه الترمذي.

إن من أهم المهمَّات أن يقف المرء عند حدِّ الشرع فلا ينجرَّ بسبب شهوة النفس إلى الحرام وهذا بلا شك يحتاج إلى قهر النفس لحملها على الاستقامة كما أمر ربنا تعالى في كتابه، ومعنى "حدود الله" أوامره ونواهيه فمن تعدَّى أي تجاوز ما أمر الله به بأن لم يلتزم أداء الواجبات واجتناب المحرَّمات مستحلًّا لذلك كان واقعًا في أكبر الظلم مفارقًا ملة المؤمنين، وإذا قصَّر في ذلك مع اعتقاد أن أمر الله حق واتهامه لنفسه بالعصيان  فهو ظالم دون الظلم الأكبر ولكنه لا يخرج بذلك عن ملة المؤمنين.

ومن كرُمت عليه نفسه اختار لها الترقِّي في مراتب الكمال لبلوغ مقامات الصَّالحين، وحسنٌ بالمرء أن يعمل بالحديث المذكور أعلاه فهو متضمنٌ لقاعدةٍ هي حصنٌ لمن تحصَّن بها من كيد الشيطان وهوى النفس الأمَّارة بالسوء، فإن قوله صلى الله عليه وسلم "دع" أي اترك، ومعنى "ما يَريبك" ما تشُكُّ فيه. تقول: رابني الشىء أي شككت فيه، والمراد اجتنب ما تشك فيه واعدل إلى ما لا تشُكُّ فيه أي خذ ما أيقنت أنه حسنٌ حلالٌ واترك ما شككت فيه هل هو حسنٌ أو قبيحٌ أو هل هو حلالٌ أو حرام.

 

دع ما يَريبُك

وفي الحديث أمرٌ باتقاء الشُبهات والاقتصار على الحلال المحض الذي لا يحصل للمؤمن في قلبه منه ريبٌ أي قلقٌ واضطراب في حكمه، ثم إن الشكَّ الحاصل في بعض الأمور يوجب تركها أحيانًا فيكون إتيانها مع الشك حرامًا ولا يوجب تركها في أحيانٍ أخرى بل يكون اجتنابها لأجل الشك أحسن لأن الاسترسال في مثل ذلك ربما جرَّ إلى الحرام المحض، ولأهل العلم تفصيلٌ في بيان متى يكون الترك واجبًا ومتى يكون مستحبًا والكلام في ذلك يطول إلا أننا نوضحه بعض الإيضاح فنقول:

تنقسم الأمور التي تحصل فيها الريبة ويُشك في أصلها إلى أقسامٍ فمنها ما يعلم الإنسان أنه حرام ثم يشك هل زال تحريمه أو لا فهذا على الحُرمة حتى يُعلم حلُّه بيقين كالأَبضَاع (جمع بُضْعٍ ويطلق على الفَرج والجِماع) فالأصل فيها الحُرمة إلا ما حلَّ بالطريق الشرعي كالنكاح، فطالما شكَّ الإنسان في حصول الحل كأن شك في إجراء عقد الزواج مثلًا لم يجز له الإقدام على ذلك إلا أن يعلم حصول الحلِّ فيكون ذلك عندئذٍ مباحًا له، وكاللُحوم فإن الأصل في حلها التيقن فإن شك الإنسان في اللحم هل هو مُذكىً ذكاةً شرعية أي ذُبح ذبحًا يحل أكله به أم لا لم يجز أكله مع الشك باتفاق العلماء كما نقله الحافظ السيوطي في "الأشباه والنظائر" وغيره، فإنه إن زالت حياة البهيمة بغير ذكاةٍ شرعيةٍ فهي ميتة وأكل الميتة حرام بصريح القرآن والحديث، فإن شُك هل ذكيت ذكاةً شرعيةً أو لا انبنى الحكم على الأصل ولا يسوغ ترك الأصل لأمرٍ يُشك فيه.

وعكس ذلك أن يكون الشىءُ حلالًا فيُشك في تحريمه كالرجل له زوجة فيشك هل طلَّقها أو لا فإن الأصل حل معاشرة المرأة بالنكاح، وحيث تحقق من حصول عقد النكاح صار النكاح هو الأصل أي فصار الأصل الحل في معاشرة هذه الزوجة، فمن شك بعد ذلك هل طلَّقها أو لا فإن الحكم على الأصل أي فلا يُحكم ببطلان الأصل المعلوم بيقين لأجل أمرٍ مشكوك في حصوله، أي فلا يُحكم في هذه الحالة بوقوع الطلاق إجماعًا كما نقله النووي في "المجموع" ولا حرج في استبقائها، ولكن الأولى في هذه الحالة أن يبتعد عنها فيكون ترك جماعها وترك الخلوة بها أحسن لأنه أوفق للحديث "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وهو من الورع، وإذا أشرق نور الورع في القلب حمل صاحبه على خيرٍ عظيم، وكان الصالحون يجعلون بينهم وبين الحرام حاجزًا من الحلال أي يترك أحدهم ما هو في حكم الحلال مما لا إثم في فعله خشية الريبة إذا لم تطمئن نفسه مثلًا إلى شىءٍ ما، فهو يستعين بذلك على تحصين نفسه من أن ينساق شيئًا فشيئًا إلى الحرام البَيِّن، وهذا مقام لا يصل إليه إلا القليل من عباد الله.

ليس الورع بالوسوسة

وأما إذا احتمل عكس ما هو راجح بالوهم كأن ترك الشخص استعمال الماء الذي هو طاهر خشية أن يكون قد وقعت فيه نجاسة مع أنه لا يُعلم طروء النجاسة عليه، أو ترك الصلاة في موضعٍ لا أثر فيه لنجاسة خشية أن يكون قد أصابته نجاسة مع أنه لا يعرف طروء النجاسة عليه، أو غسل ثوبٍ مخافة أن يكون أصابته نجاسة لم يشاهدها بناء على التوهم فقط في كل ذلك فإن هذا لا ينبغي إذ ليس فيه من معنى الشُبهة شىءٌ، بل هو هَوَسٌ وربما كان ضربًا من الوسوسة في بعض الأحيان، ومثل هذا يتأتى من بعض العوام وكثيرًا ما يسأل أحدهم في مثل ذلك، يظن الواحد منهم أن هذا من الورع وأنه بذلك يعمل بمقتضى الحديث، وليس فعله كذلك بل ربما وقع بعضهم في انتهاك المحرمات الظاهرة التي لا لبس فيها أحيانًا فتراه مثلًا يأكل أموال الناس بالباطل ولا يُبالي ويدخل في العبادات والمعاملات بدون علمٍ فيفسد أكثر مما يُصلح ثم يرى الورع بالأخذ بالوهم في مثل ما ذكرنا، وهؤلاء لا ينبغي السكوت لهم بل يُنكر عليهم تنبيهًا لأحدهم على قلة تقواه ليحمله ذلك على حقيقة التقوى، فقد روى الترمذي أن ناسًا من أهل العراق سألوا عبد الله بن عمر عن دم البعوض يصيب الثوب؟ فقال ابن عمر: انظروا إلى هذا يسأل عن دم البعوض وقد قتلوا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي قتلوا الحسين عليه السلام.

 والحمد لله أولًا وآخرا.    

الوسوم