بيروت | Clouds 28.7 c

الشعب اللبناني المبتلى بفيروسات ثلاث وفاجعتين/ بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 5 أب 2020

 

يمر الشعب اللبناني ربما لأول مرة في وضع تتحير فيه العقول، فهو محكوم بمجموعة غارقة في الفساد وهي تدعي محاربة الفساد، وحكام يمسكون بمقاليد السلطة في البلاد وهم يريدون رهن البلد للأجنبي، وشعب يزيد كل يوم جوعاً وعطشاً وفقراً وهو متمسك بزعاماته التي يقرّ هو بفسادها، ويصارع وحيداً وباءً قاتلاً لا يعرف أحد له علاجاً ولا دواءً، ويُفاجأ بكارثة مفجعة لم يشهد لها لبنان مثيلاً، وانفجار مهول يدمّر العاصمة  بشراً وحجراً وبصيب الضواحي تصدعاً وخراباً، ونكبة تقضي على ما تبقّى من أمل عند بعض الناس لاستمرار العيش في البلد.

التحركات الشعبية

لقد رأينا خلال التحركات الشعبية قبل عدة شهور كيف نزل كل أطياف الشعب إلى الساحات في البداية يجمعها الوجع من الفقر والألم من الجوع والغضب على الطغمة الحاكمة المسؤولة عن الفساد في الدولة وعن انهيار الإقتصاد الوطني، وكانت الشعارات بريئة والمطالبات صادقة، لكن التدخلات الأجنبية والداخلية وتغلغل الشياطين بين الصفوف سيّست التحركات وحوّرت الشعارات من مطلبية محقة يؤيدها عموم الشعب اللبناني إلى صرخات استفزازية لهذا الفريق وذاك، وكان هذا التسييس بداية لتفرق الصفوف وفقدان وهج الإنتفاضة الشعبية، وأعطى الذريعة ليجعل الفقراء في معركة فيما بينهم فينجوا الفاسدون بأنفسهم، ويتصارع أصحاب القضية الواحدة فيتفرّج عليهم من كانت الثورة موجّهة ضدهم ويضحكوا على عقولهم، ويتعصب كل متضور جوعاً من طائفة لناهب رغيف خبزه وسارق حليب أطفاله في مقابل من يعاني مثله من الجوع والفقر لكنه ينتمي إلى طائفة أخرى، ويبقى السّارقون لقوت الشعب من مختلف الطوائف بمنجى من غضب الشعب يحمي كل واحد منهم فقراء من طائفته يعتقدون أن هناك مؤامرة ضد كيانهم ومذهبهم وطائفتهم.

في إحدى سفراتي إلى الهند رأيت في مدينة بومباي على الرصيف وعلى مسافة متقاربة رجلين إثنين يسكنان هناك وليس لهما أدنى مقومات العيش حيث يجلسان على حصير رثّ ويُظللهما قطعة من البلاستيك يحميهما من المطر، لكن أحدهما ألصق على الجدار الذي يستند إليه صورة للمسيح عليه السلام ليؤكد للعابرين أنه مسيحي، والآخر ألصق فوق رأسه صورة لأحد آلهة الهندوس ليعلم الجميع انتماءه لطائفة الهندوس، فتوقفت متعجباً متسائلاً: ماذا يستفيد هذان الرجلان الفقيران المعدمان من إظهار تمسك كلٍ منهما بدينه عبر إلصاق كل منهما صورة تشير إلى اعتقاده وانتمائه إلى طائفة، فلا المسيحية أمّنت للمعدم المسيحي أدنى مستلزمات الحياة ولا الديانة الهندوسية أعانت المنتمي إليها على ضنك العيش والخروج من الفقر المدقع ؟!

إن حال اللبنانيين اليوم تُشبه بالضبط حال الفقيرين المُعدمين في الهند، حيث يتساوى غالبية الشعب اللبناني من مختلف الطوائف في الفقر والجوع والبطالة والقلق على اليوم لا على الغد ولا على المستقبل، حيث المواطن في الصباح لا يدري كيف يكون حاله في المساء، والذي يرقد ليلاً لا يدري على أي حال يستيقظ في الصباح، وبطريق أولى لا يمكن لأي لبناني اليوم أن يعرف كيف تسير أموره في اليوم التالي، ومن المستحيل عليه تقريباً أن يتنبأ بما يمكن أن يكون حاله بعد أسبوع أو شهر، ومن سابع المستحيلات أن يتصور لبناني حاله في المستقبل ويبني على تصوره ذلك خط سير لحياته لسنوات قادمة..

 لكن الذين ذكرناهم ينسون ما يعانون جميعاً دون استثناء، ويحمل كل فقير معدم منهم على كتفه راية فاسد من طائفته وهو يعلم أن من يحمل رايته هو سارق ثروته وناهب حقه ومتأمر على وطنه..

لكنه مع ذلك يرفع القبضات دفاعاً عن السارق ويشكل بجسده جدار حماية للناهب ويرفض أن يمسّ أحد شعرة للخائن، وهو يعتقد أنه بذلك ينال رضا الله سبحانه وأنه يجزيه على فعله هذا جنات تجري من تحتها الأنهار يوم الدين، وهؤلاء اللبنانيون الفقراء المعدمون من كل الطوائف يصمّون آذانهم عن سماع كلمة الحق إذا صدرت من شخص لا ينتمي إلى طوائفهم، وهذا ما جعل الحكام اللبنانيين منذ العام ١٩٤٣ حتى اليوم يستمرون مطمئنين في نهب ثروات البلد وسرقة أموال الشعب كل واحد باسم دينه وطائفته ومذهبه وحتى باسم العمال والكادحين في بعض الأحيان.

حكّام البلد

أما المشكلة الأخرى أن الحكام الذين يمسكون بمقاليد السلطة والذين يقولون بأنهم يريدون استقلال البلد يرمون بأنفسهم أمام سفير هذه الدولة وتلك، والذين يدّعون الحزص على السيادة يدافع كل قسم منهم عن تدخل دولة في شؤون لبنان صغيره وكبيره، فمنهم من يقيم سنوياً صلاة على نية دولة مستعمرة تاريخها مليء بالجرائم والمذابح الوحشية بحق الشعوب في مختلف القارات، ومنهم من يفتخر علناً كونه يتبع تعليمات دولة أجنبية يحمل جنسيتها على الرغم من أنه قد تمّ استدعاؤه بخفّة وهو رئيس حكومة ثم كان اعتقاله وتحقيره وإذلاله أشد إذلال، ولولا التدخلات من الأطراف اللبنانية وضغوط من جهات خارجية مختلفة لكان هذا الشخص حتى اليوم يقبع في سجن المملكة مُهاناً، وآخر يقرّ بملئ فمه أنه شارك في المؤامرة على لبنان مراراً لكنه يبرر فعلته بأنه ليس وحيدا في التآمر بل يشاركه الآخرون وبالنتيجة يقول: " من كان منكم بلا خطيىة فليرمها بحجر " وقيادي آخر يقول بصراحة: " أنا لاحق الشنطة " أي أنه يتبع تعليمات من يموّله في الذولة التي يدّعي الولاء لقيادته ولا يهمه أن يكون مرسل " الشنطة " يسارياً أو يمينياً أو أصولياً أو إصلاحياً.

وأنت إذا تنقلت بين محطات التلفزة التابعة لهؤلاء لَتسمع المديع في كل قناة يتكلم عن حرص فريقه الشديد على سيادة لبنان وتفانيه من أجل الحفاظ على استقلاله واستعداده للتضحية في سبيل عزة لبنان متهماً غيره بالتفريط بالسيادة والتآمر على الإستقلال وارتهان قراره للدول الأجنبية، ويأتون كل يوم بالمحللين " الفطاحل " الذين يقبضون المال بقدر التفخيم للزعيم صاحب القناة والتكلم عن مناقبه والحديث عن فضائله، ومع الأسف تصدق كل جماعة بما تبثّه قناتها المختارة دون غيرها، وتردد ما تورده تلك القناة من معلومات على أنها موثوقة ولا يرقى إليها الشك، فيما تطعن في مصداقية ما تورده القنوات الإخرى من معلومات وتلعن كل من تستضيفه من محللين متهمة إياهم بالعمالة، وهكذا تبقى كل فئة متشبثة بقناعاتها ومتعصبة لزعاماتها ورافضة لسماع منطق غيرها.

زعامات الطوائف والأحزاب والتيارات والحركات

أما زعامات الطوائف والأحزاب والتيارات والحركات فإن كل واحد منهم وبعد تثبيت مواقعه يُقدم على توريث ابنه أو صهره أو قريب له الزعامة دون أن يملك هذا أدنى صلاحية علمية أو قدرة على التفوّه بكلمة أو دراية بخفايا سياسة، فارضاً إياه على من في حزبه أو حركته أو تياره، ويتمّ فوراً طرد كل متردد في أداء واجب الطاعة للوريث، وهكذا يخلف الإبن أباه والإبن يورّث إبنه أيضاً إلاّ إذا تدخلت عناصر معينة يوماً في الأمر فعزلت زعيماً ونصّبت غيره أو عملت على شقّ التنظيم الواحد وأشعلت حرباً بين الإخوة ليولد بعد ذلك زعيم جديد وقائد فذّ محفوفاً بهالة قداسة مدعوماً بمالٍ ومسنوداً بقوة.

الشعب المسكين

أما الشعب المسكين الذي يتقاسمه السرّاق ويتاجر به الزعماء وينهبه المسؤولون فهو يذوق المرّ كل يوم ويتمسك بـ " حبال الهواء " ويبحث عن لقمة عيش في الداخل أو محاولة الهجرة إلى أي بلد في الخارج متحملاً المخاطر أملاً في جني مالٍ قليل لإعالة أهله وأسرته في قريته، لكنه في المهجر أيضاً يحمل معه تعصبه لزعيمه ورئيسه وقائده الذي اصطره لترك وطنه وأجبره على البُعد عن أهله وأسرته، والرضا بالعيش في المنافي البعيدة وتحمل القيام الأعمال الشاقة في المطاعم والمعامل والمصانع وفي كل محطة وقود، وكثير من أولئك يخاف دائماً من انفضاح أمره واعتقال السلطات له بتهمة الدخول إلى البلاد خلسة فيقوم بتغيير اسمه وتبديل شكله وسلوكه بل والتخلي عن دينه وعقيدته كي يضمن البقاء في البلد الذي لجأ إليه طلباً للقمة العيش مجبولاً بالعرق والشقاء، فكم من خلاف نشب بين اللبنانيين في بلاد المهجر بسبب تعصب هذا لزعيم في لبنان يغرف أموال الشعب بملايين الدولارات، ودفاع آخر عن مواقف قائد لا يفيده بشيء سوى إلقاء الخطب الرنانة وإطلاق المواقف، وأشخاص يفاخرون بمشاركتهم في الحرب اللبنانية وقتل العشرات من مواطنيهم خدمة للصهاينة المجرمين وتحت راية عميل سهّل اجتياح الجيش الصهيوني لبلده من أجل الوصول إلى رئاسة الجمهورية، يواجههم ضابط تسلق الرُّتب العسكرية وخاض الحروب وقصف بيروت ودمّر الجبل وقسّم الجيش اللبناني وقلّب المواقف من النقيض إلى النقيض كل ذلك كي يصل هو أيضاً إلى رئاسة الجمهورية، وها هو يدمر البلد ويفعل المستحيل ويغيّر التحالفات في سبيل أن يورّث قريبه الرئاسة من بعده، ونحن ندكر هنا الوقائع بتجرد ولا نريد استفزاز مجموعة أو إثارة حزب أو التجريح بتيار أو التعرض لحركة.

معضلة تفشّي الوباء

أما معضلة تفشي الوباء فصحيح أن العالم كله يقف حيران أمام فيروس لا يُرى بالعين المجردة، ويتخبط العلماء في الحديث عنه وإبداء الأراء حوله وكيفية التعامل معه، ويعجز العلم البشري حتى اليوم على الرغم من مرور عام على ظهور الفيروس عن معرفة حقيقته ليتمكن من السيطرة عليه ووقف تفشّيه بين الناس، لكن اللبناني من بين شعوب العالم يشعر بأن دولته لا يهمّها مصير الشعب أبداً، وتتسلّى بتقديم بعض المعونات والقيام ببعض الإجراءات الشكلية، فيما كل حزب يُلقي تبعة ظهور الإصابات الأولى في لبنان على غيره بل وشمتت فئة لفترة بأن المنطقة التي تنتمي إليها غير موبوءة وإذا بعشرات الإصابات تظهر بعد يوم أو أيام في تلك المنطقة بعينها، والدولة تتخبط في أخذ القرارات واتخاذ الإجراءات في وقت يعاني المواطنون من انهيار اقتصادي وتدهور سريع في سعر العملة الوطنية وارتفاع جنوني لأسعار السلع الأساسية، ويواجه أكثر الناس ممن يعيشون على إعانات أبنائهم وأقربائهم في الأغتراب حصاراً خانقاً يمنع التحويلات المالية من وصول أي مبلغ زهيد إليهم، والذين أودعوا أموالاً في المصارف حفاظاً عليها لا يمكنهم سحب شيء من ودائعهم إلاّ بعد التذلل واستعمال " الواسطة "، فيما الزمرة الحاكمة بكافة صنوفها، ولا أستثني أحداً، قد أمّنت لنفسها ولأسرتها المال اللازم في الداخل وأودعت بالملايين في المصارف بالخارج، فلا تتأثر أبداً بالأزمة ولا تعاني بتاتاً من الغلاء، ويتمّ لأصحاب الفخامة والمعالي والسعادة والزعامة والسيادة وأصحاب النيافة والسماحة أيضاً وبصورة إستثنائية وفي أسرع وقت تأمين الطلبات وتلبية الحاجات، فلا يشعرون أبداً بنقص في مستلزماتهم، ولا يحسّون كلياً بانقطاع الماء والكهرباء عن منازلهم ومكاتبهم، ولا يعانون من شحّ في وقود سياراتهم، ولا يواجهون صعوبة في تأمين الأقساط المرتفعة لأولادهم في مدارس وجامعات أوروبا والولايات المتحدة.

الاهمــــال – الفاجعة الكبرى

أما الفاجعة الكبرى التي حلت قبل يوم بالعاصمة والضواحي والكارثة التي أصابت أهل بيروت الكرام والأضرار التي لحقت بالممتلكات والمباني، فإنها كانت بسبب إهمال في الإجراءات وتكديس للمواد القابلة للإنفجار بكميات كبيرة جداً في منطقة تحيط بها المباني السكنية من دون اتخاذ الإحتياطات الضرورية، ومن البديهي أن المستورد لهذه المواد بهذه الكمية ليس شخصاً عادياً بل تشير الأصابع إلى أشخاص هم من زمرة الحكام الفاسدين، ويؤمن الغطاء له زعيم طائفة يشاركه في الأرباح، وعليه فلا يخاف من محاسبة على استهتاره، أو عقوبة على جريمته، ويتحول المواطن العادي الفقير قبل الفاجعة معدماً بعدها لا يجد لقمة يأكلها وسقفاً يستظل بها ودواءً يعالج مرضه بها، بل سيحصل المسبب للفاجعة على الملايين تعويضاً على خسائره من تلك المساعدات العربية والدولية القادمة ولا يصل للمواطن العادي منها إلا الفتات وبشرط التسكع على أبواب الزعماء الفاسدين وبعد التذلل أمام الرموز المسؤولين عن المصائب التي تحلّ بالبلاد، وتكون " العترة على الفقير " وأموال المساعدات تذهب إلى جيوب الحيتان ويُطلب من الفقراء الصبر على ما أصابهم وانتظار الأجر من الله سبحانه يوم القيامة.

إن تلاحق ألوان البلاء على الشعب اللبناني هو بسبب السكوت على المظالم، والرضا ببقاء الجائرين، ومسايرة الجبارين، وفي ذلك تشجيع للظالم على إدامة ظلمه، وللسارق على الإستمرار في سرقاته، وللخائن في التمادي في خيانته، ولقد جاء في الحديث النبوي " العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم "، ويقول أمير المؤمنين علي عليه السلام: " أيها الناس؛ إنما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم الله بالعذاب لِما عمّوه بالرضا " وقال الله سبحانه:

( فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسوّاها ولا يخاف عقباها ).صدق الله العلي العظيم

السيد صاذق الموسوي

الوسوم