بيروت | Clouds 28.7 c

الغنى والفقر / بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 23 تموز 2020

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم:{أَهُم يَقسِمون رحمةَ ربك نحن قسَمنَا بينهم معيشتَهم في الحياة الدنيا ورفَعنَا بعضَهم فوق بعضٍ درجاتٍ ليتَّخذ بعضُهم بعضًا سُخريًّا ورحمة ربك خيرٌ مما يجمعون} سورة الزخرف.

إن الواجب على المؤمن أن يرضى عن الله تعالى بمعنى أن يُسلِّم لله ولا يعترض عليه فإن الله عزَّ وجل فعَّالٌ لما يُريد، يُعطي من يشاء ويمنع من يشاء، وكل نعمةٍ منه فضلٌ وكل نقمةٍ منه عدلٌ، لا يُسأل عمَّا يفعل وهم يُسألون، فهو يبتلي عبادَه بما يشاء،فمن كان راضيًا ثابتًا على طاعة الله كان على خيرٍ عظيم سواء كان غنيًا بالمال أم فقيرًا، ومن لم يكن على هذه الصفة كان على شرٍ مستطير ولو كان ذا مالٍ كثير فإن المفاضلة عند الله ليست بالثراء، فكم من أناسٍ فقراء أفضلُ عند الله من كثيرٍ من الأغنياء وكم من أغنياء صرفوا أموالهم في معصية الله فسيكون هذا المال وبالًا عليهم يوم القيامة، وكم من أناسٍ أمضَوْا أعمارهم في جمع المال فماتوا وانتقل المال لمن يكرهون، وكم من أناسٍ لزموا طاعةَ الله حالَ فقرهم وشدة حاجتهم ثم رأيناهم بعد ما تغيَّرت أحوالهم ووسّع اللهُ عليهم في الرزق انقلبوا من الطاعة إلى المعصية ومن قوة الهمة في الخير إلى الفتور والكسل بل لم يكتفوا بما منَّ الله به عليهم وراحوا يطلبون زيادة المال بطريق الحرام.

أحوال الناس

 وترى كثيرًا من الذين يجمعون المال الكثير من الحرام لا يُنفقون في كل حياتهم أقل من ربع ما جمعوا، فهل يحتاج أحدهم لأكثر من غرفةٍ تأويه ولو كان عنده عشرات القصور؟! وهل يلبس أكثر من ثوبٍ واحدٍ أو يأكل ويشرب فوق ما يحتاج؟! ولو قنَع بما ساقه الله له من الحلال تخلَّص من تبِعات الحرام وقد أخبر الله في كتابه العزيز أن الناس لا يملكون قسمة رحمة الله، فليس على اختيار الناس تُقسم الفضائل كالنبوة وغيرها بل قسَم الله معيشتهم في حياتهم الدنيوية فلا يملكون توسيع الرزق ولا تقتيره على أنفسهم ولا على غيرهم، وجعل بعضَهم فوق بعض درجات فجعل فيهم القوي والغني والفقير والمحتاج والخادم، وكم ترىفي الناس من ضعيف القوة قليل الحيلة عيي اللسان مبسوطٌ له في الرزق وترى قوي النفس شديد الحيلة فصيح اللسان وهو مُقتَّرٌ عليه في الرزق فيتَّخذ بعضهم بعضًا سُخريًّا بأن يصرف بعضهم بعضًا في حوائجهم باستخدامهم في مهنهم ومشاغلهم فيصلون إلى منافعهم هذا ينتفع بالمال أجرةً على العمل وذاك ينتفع بالعمل مقابل ما يُنفقُ من المال وهكذا تقوم معايش الناس، ولكن رحمة الله التي أسبَغها الله على المتَّقين بأن وفَّقَهم للعمل الصالح وما يتبع ذلك من الفوز في الآخرة خيرٌ مما يجمعون من حطام الدنيا الزائلة.

 فمن ابتلاه ربه بالفقر فليصبر وليجعل من ذلك طريقًا له إلى مرضاة الله فإنه لا يدري ما يكون حاله إن أغدق الله عليه متاع الدنيا ولعلَّه ينسى بعد ذلك حقوق الله وحقوق عباد الله في هذا المال فيطغى إذا صار غنيًا،ومن أنعم الله عليه وآتاه مالًا كثيرًا فليحمد الله على نعمه وليكن شاكرًا على الوجه الذي أوجبه الله والشكر الواجب هو أن لا يُعصى الله بِنِعَمه.

ومن أيقن بهذه الحقائق جديرٌ به أن يكون عنده من الحكمة ما يستعين بها على وقاية نفسه في السرَّاء والضرَّاء فقد روى أبو داود عن أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات: "اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار ومن شرِّ الغِنى والفقر". قال البدر العيني في شرح سنن أبي داود: "شر الغنى أن يُرزق مالًا ولم يُرزق هدايةً إلى إخراج ما أوجب الله عليه فيه من الصدقات والصَّرف في مصارفه الشرعية، وشر الفقر قيل فقر النفس وقيل فقر المال، وشره أن لا يُرزق صبرًا على ذلك".

فمن رُزق مالًا ولم يهتد إلى إنفاقه فيما لا حرج فيه بل أنفقه في الحرام فهذا شرٌ ومن افتقر ولم يصبر فمد يده إلى الحرام فهذا شر والموفَّق من وقاه الله هذين الشرين.

ليس الفضل بالمال

لقد أعطى الله خلقًا من عباده مالًا ومتاعًا ولم يوفّقهم إلى صرفه في الوجوه الحسنة بل ساء فهمهم فظنوا أن الله قد منحهم كل هذا الرزق لأنه أحبهم ولو أنصفوا لعلموا أن علامة محبة الله للعبد هي بقوة اتِّباع العبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم لابمجرد المال والجاه كما قال ربنا في سورة آل عمران:{قل إن كنتم تُحبون اللهَ فاتَّبعوني يُحببكم الله}.وقد روى مسلمٌ عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ أو ليلةٍ فإذا هو بأبي بكرٍ وعمر فقال: ما أخرجكما من بُيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله. قال: وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما".فمن ظن أن الكرامة والهوان عند الله يُقاسان بمقدار الغنى والفقر فقد ضلَّ ولكننا نرى الجاهل يصرف كل همَّته في طلب الثروة ويحتجُّ بقول الله تعالى في سورة القَصص:{ولا تنس نصيبك من الدنيا} وليس المعنى كما يُظَن بل في الآية حثٌّ على أن لا ينسى العبد العمل الصالح في دنياه فيأخذ بنصيبه من ذلك ليوم القيامة  وفي تفسير الطبري عن ابن عبَّاسٍ قال: "أن تعمل فيها لآخرتك".

فيا أيها الفقير استعن بالصبر على تهذيب نفسك واعلم أن الفقير الصابر إن تفوَّق على الغني الشاكر بالعمل الصالح كان أفضلَ منه، ويا أيها الغني اشكر ربك واعلم أيضًا أنك إن تفوَّقت على الفقير الصابر بصالح الأعمال كنت أفضلَ منه فاستعن بالمال على ذلك فلعل غني اليوم فقير الغد ولعل فقير اليوم غني الغد ولعل ما تخشاه تأمن من خلاله ولعل ما ترجوه تُساء منه.

وانظر لمن قد حوى الدنيا بأجمعها                    هل راح منها بغير القُطن والكفن

والحمد لله أولًا وآخرا. 

 

الوسوم