بيروت | Clouds 28.7 c

بولتون الأمين الخائن / بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 27 حزيران 2020

منصب مستشار الأمن القومي في سلم مناصب الإدارة الأمريكية هو الأهم بعد منصب نائب الرئيس الأمريكي، حيث أنه الأقرب إلى موقع القرار الأول وهو الرئيس، وبعده يأتي موقع ممثل الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن الدولي من حيث تواصله المستمر والدائم مع صاحب القرار الأول الرئيس لأجل أخذ التعليمات منه في الصغيرة والكبيرة ومعرفة كيفية التعامل المطلوب مع تحركات وتصرفات ممثلي باقي الأعضاء الدائمين وغير الدائمين وسائر سفراء ذول العالم في المنظمة الدولية ومتى يستعمل الفيتو باسم دولته ومتى يوافق على القرارات التي تتم مناقشتها في مجلس الأمن، وتأتي أهمية الموقع الأخير مترادفة مع موقع وزير الخارجية الأمريكي، وإذا علمنا أن جون بولتون قد تبوّء منصب ممثل الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي عام ٢٠٠٨ في عهد الرئيس الجمهوري جورج بوش الإبن، ثم ابتعد عن المناصب الرسمية بعد ذلك حتى جاء دونالد ترامب الجمهوري أيضاً وقام بتعيين بولتون مستشاراً للأمن القومي في إدارته وهو المنصب الأهم في مطبخ السياسة الأمريكية، وبقي الرجل في منصبه لمدة ١٧ شهراً حتى استقال بادعائه هو وأقيل بادعاء ترامب.

إن الموقعين المهمّين الذين حصل عليهما جون برلتون في الإدارة الأمريكية أتاحا له فرصة المشاركة في اتخاد قرارات مهمة والإطلاع على أسرار كثيرة للدولة منذ ما قبل حصوله على المنصبين وحتى بعد خروجه من الموقع الرسمي، لأن ممثل الدولة لدى مجلس الأمن يمكنه الإطلاع على كل الملفات التابعة لدولته حتى السابقة لتاريخ تبوّئه المنصب لأنها تؤثر في مناقشاته ويستفيد من تجارب أسلافه للتعاطي مع ممثلي باقي الدول، ولما يصل إلى موقع مستشار الأمن القومي فهو  وعلى نطاق أوسع يطّلع على كافة الملفات السرية والإستراتيجية لجميع مؤسسات الدولة في مختلف العهود، وبالنتيجة يمكن التيقن بأن بولتون هو مخزن أسرار البيت الأبيض، و المطّلع كاملاً على عقلية ونفسية وأفكار الرئيس ترامب؛ والمراقب لمنهج الرجلين في التفكير يكتشف بسهولة اشتراكهما في أكثر الرؤى، لكن ترامب التاجر يريد تسخير كل شيء لمصلحته الشخصية سواء كان في البيت الأبيض أو بعد مغادرته له في نهاية الفترة الرئاسية الأولى، وهذا ما يؤكده جون بولتون في كتابه الذي نُشر مؤخراً، لكن بولتون يريد التحضير لمستقبل سياسي أعلى لنفسه بعد منصبي ممثل الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي ثم مستشار الأمن القومي، وهذا يتطلب تسجيل إيجابيات لشخصه وبناء كيان خاص لنهجه على أنقاض من كان يتعامل معهم في السابق، خصوصاً أن تصرفات دونالد ترامب جعلت حتى أقرب أنصاره في الحزب الجمهوري محرجين في الدفاع عن تصرفاته الهوجاء وتأييد قراراته المزاجية والمتذبذبة.

إن الرئيس دونالد ترامب واجه منذ اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض مشكلة في الحصول على متعاونين موثوقين يستمرون طوال عهده في الدفاع عن مواقفه ومساندته في قراراته وتأييد تصرفاته، ولذلك نجد أن عهده مند بدايته في ٢٠ / ١ / ٢٠١٧ وحتى اليوم شهد أكبر عدد من المغادرين عبر الإقالة التيوترية أو من خلال الإستقالة غير الطوعية، وأولئك كلهم من كبار المسؤولين، فمنهم مايكل فلين، مستشار الأمن القومي السابق ١٤ / ٢ / ٢٠١٧، ثم بريت بهارارا، المدعى الفيدرالي في نيويورك ١١ / ٣  / ٢٠١٧، ثم جيمس كومي، مدير التحقيقات الفيدرالي ٩ / ٥ / ٢٠١٧، ثم شون سبايسر، المتحدث باسم البيت الأبيض ٢١ / ٧ / ٢٠١٧، ثم رينس بريبوس، كبير موظفي البيت الأبيض ٢٨ / ٧ / ٢٠١٧، ثم أنطوني سكاراموتشي، مدير الاتصالات في البيت الأبيض ٣١ / ٧ / ٢٠١٧، ثم توم برايس، وزير الصحة ٢٩ / ٩ / ٢٠١٧، ثم روب بورتر، سكرتير شؤون الموظفين في البيت الأبيض ٨ / ٢ / ٢٠١٨، ثم روب بورتر، سكرتير شؤون الموظفين في البيت الأبيض ٨ / ٢ / ٢٠١٨، ثم هوب هيكس، مديرة الاتصالات في البيت الأبيض ٢٨ /  ٢ / ٢٠١٨، ثم غاري كوهن، كبير المستشارين الاقتصاديين ٦ / ٣ / ٢٠١٨، ثم ريكس تيلرسون، وزير الخارجية ١٣ / ٣ / ٢٠١٨، ثم هربرت مكماستر، أول مستشار الأمن القومي في عهده  ٢٢ / ٣ / ٢٠١٨، ثم ديفيد شولكن، وزير شؤون المحاربين القدامى ٢٨ / ٣ / ٢٠١٨، ثم سكوت بروت، رئيس وكالة حماية البيئة ٦ / ٧ / ٢٠١٨، ثم نيكي هيلي، السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة ٩ / ١٠ / ٢٠١٨، ثم جيف سيشنز، وزير العدل ٧ / ١١ / ٢٠١٨، ثم جون كيلي كبير موظفي البيت الأبيض الذي استقال في ٨ / ١٢ / ٢٠١٨ بعد أن وصف ترامب مراراً بـ " الأحمق "، وهكذا كرّت السبحة حتى ناهز المغادرون الـ ٨٠ وعندئذٍ توقف العادُون عن متابعة عمليات الإقالة والإستقالة من " عظام الرقبة " في إدارة دونالد ترامب لكثرتها ولتفاهة الأسباب المذكورة لعمليات الإبعاد والإبتعاد.

وكان جون بولتون في عداد الذين دخلوا في الحلقة الضيقة جداً لدونالد ترامب لمدة عام ونصف تقريباً رافقه خلال تلك الفترة في أسفاره وحمل رسائل له إلى عواصم عديدة وشارك في مناقشة واتخاذ قرارات مهمة، لكنه لم يتحمل طويلاً مزاجية رئيسه وتذبذبه في مواقفه والتي كشف اللثام عن بعضها في كتابه الأخير، فأصبح بولتون الأمين على الأمن القومي ومن قبل ممثل الولايات المتحدة في المنظمة الدولية بعد أن كشف المستور خائناً تارة ومجنوناً تارة، وما أورده من معلومات كذباً تارة وكشفاً لأسرار الدولة تارة، والإستهزاء بكلامه من جهة وتقديم الدعوى لمنع توزيعه من جهة أخرى، وأخيراً تهديد ترامب له بصراحة أنه سيدفع ثمناً باهظاً جداً بسبب نشره مذكراته، وهذ التخبط واضح في ما يصدر عن الرئيس الأمريكي في ردود فعله على المعلومات المهمة عن شخصه وأسرته وحاشيته وسياساته الواردة في كتاب بولتون الأخير، لكن بولتون الجمهوري ليس وحده من يشكك في توازن ترامب العقلي وتأكيده أن سلوكه يقوّض حتى شرعية الرئاسة، بل قالت رئيسة مجلس النواب الديمقراطية أيضاً وبكل صراحة أن ترامب مجنون وعملت جاهدة لمساءلته مقدمة لعزله حتى صدر قرار لمجلس النواب يؤكد عدم صلاحيته لإدارة البلاد، والذي تابع مواقف الرئيس الأمريكي خلال تعامله مع الأزمة الصحية العالمية بسبب فيروس كورونا ما أدى إلى تفشي الوباء على أوسع نطاق حتى صارت الولايات المتحدة الأولى في العالم من حيث الإصابات و في أعداد الضحايا، و أيضاً أثناء الإعتراضات الشعبية الحاشدة في مختلف المدن والولايات الأمريكية والتي أعقبت مقتل المواطن الأمريكي الأسود جون فلويد خنقاً على يد شرطي أبيض يرى بوضوح كامل عدم الإتزان في كل ما يصدر عنه لا ضرورة لذكر تفاصيلها في هذه السطور، لكن الإستطلاعات أظهرت أن الرأي العام الأمريكي أيضاً سئم تخرصات رئيسه وتجلى ذلك في المهرجان الإنتخابي في مدينة تولسا بولاية أوكلاهوما ( وسط البلاد ) والذي راهن ترامب كثيراً على الحشود الكبيرة التي ستحضره، لكن قلة الحضور اللافت والذي لم يتجاوز نصف القاعة التي تتسع لـ ١٩٥٠٠ شخص فقط بعد أن تباهى ترامب بأن عدد الحجوزات لهذا المهرجان قد بلغ المليون وهذا الفشل الإنتخابي تسبب بالصدمة الشديدة لترامب ما جعله لا يستبعد فوز منافسه جو بايدن في الإنتخابات المقبلة بعد أشهر قليلة.

إن تخلي رموز كبيرة من الجمهوريين عن تأييد دونالد ترامب مثل كولن باول و سوزان رايس وغيرهما من ذوي البشرة السوداء، وتحول المعركة بين ترامب وبين المواطنين ذوي الأصول الأفريقية إلى معركة عنصرية خصوصا بعد نزول الجماعات العنصرية من البيض وهم يحملون السلاح والعصي دفاعاً عن ترامب مهاجمين الحشود المعارضة للتمييز العنصري في عدد من المدن، ما أدى إلى ردود فعل غاضبة وتصعيد للتحركات الشعبية والقيام بإحراق العَلَم الأمريكي في عدد من التظاهرات، وأيضاً إعلان مناطق من البلاد خارجة عن سلطة الدولة، وأخيراً التوجه في العديد من المدن والولايات بما فيها العاصمة واشنطن نحو تحطيم التماثيل التي ترمز إلى الماضي البغيض في تاريخ أمريكا القائم على الإستعباد والتمييز العنصري ضد شريحة كبيرة ممن توطنوا فيما سمّي الولايات المتحدة بعد حروب طاحنة واحتلال مناطق هنا وهناك وارتكاب مجازر وحشية بحق سكان الأرض الأصليين، وهذا التوسع في عمليات تحطيم التماثيل دفع عمدة نيويورك بيل دي بلاسيو إلى استباق الأمر وإعلانه العزم على إزالة تمثال بارز لثيودور روزفلت الرئيس الأمريكي السادس والعشرين من مدخل المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي في المدينة وذلك بعد اعتراضات على تصميم التمثال الذي يرمز إلى التوسع الاستعماري والتمييز العنصري، وموقف عمدة نيويورك هذا أغضب ترمب واصفا القرار بـ " السخيف "، داعيا إلى العدول عنه.

 

واللافت أن ترامب الذي أيد سلوك عناصر الشزطة العنصري وقف أيضاً يدافع بقوة عن التصرفات المشينة لأصحاب تلك التماثيل ووصفها أنها جزء من " تاريخ البلاد العظيم "، وأخيراً توّج موقفه بأمر رئاسي تنفيذي " قوي للغاية " لحماية التماثيل الأمريكية ومن أجل مكافحة ما أسماه " العنف الإجرامي " يقضي بالسجن لمدة طويلة لمن يعتدي على تلك التماثيل أو يشارك في تحطيمها، مدعياً أن ذلك " حماية للقانون "، أما نظرته إلى الملايين من المتظاهرين في طول البلاد وعرضها وفي مختلف دول العالم ضد الممارسات العنصرية فقد تجلت في جملة النعوت القبيحة التي أطلقها عليهم كـ " الرعاع " و " الفوضويين " و "البلطجية " و " المجرمين " و " الإرهابيين " و " الخونة "و بعض الألفاظ القبيحة الأخرى التي نأبى ذكرها هنا، لكنه لم يتفوّه بكلمة واحدة يدين فيها هجمات العنصريين البيض المسلحين على حشود المتظاهرين السلميين وحتى قيام رجال شرطة وبلباسهم الرسمي باختراق صفوف الحشود وبسيارات الشرطة، إضافة إلى العنصريين المسلحين الذين قاموا بدهس المتظاهرين بالسيارات والشاحنات، وكل هذه الهجمات موثقة بالصوت والصورة منشورة على مواقع التواصل الإجتماعي.

إن انضمام جون بولتون إلى إدارة دونالد ترامب وتعامله مع إدارته ثم خروجه أو إخراجه يجعل شهاداته بحق سيد البيت الأبيض ذا مصداقية، ورغم أنه لم يفصح عن كل الحقائق والمعلومات التي يعرفها، لكن ما ورد في الكتاب يكفي لتعرف الناس على الوجه الخفي وما يُكنّه في صدره في مختلف المجالات، وما تتضمنه المذكرات من فضح كيفية تعامل موظفي البيت الأبيض مع الرئيس واستهزائهم جميعاً به من وراء ظهره، وكيف أنه يحاول دائماً الإيقاع بين المقربين منه ويسعي لإحداث صدامات بين موظفيه، ويورد بولتون مثالاً على ذلك قول ترامب له: إن وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون كان يطلق ألفاظا غير لائقة على المندوبة الأمريكية آنذاك في الأمم المتحدة نيكي هيلي، لكن بولتون يقول أنه اكتشف في وقت لاحق أن تلك الألفاظ كان يطلقها عليها ترامب نفسه، وليس تيلرسون.

إن تلك الحقائق التي لم يرِد إلا القليل منها في كتاب بولتون إذا استطاعت إقناع المواطنين الأمريكين بعدم التصويت لدونالد ترامب مرة أخرى في الإنتخابات المقبلة فإن مكانة أمريكا يمكن استعادتها والأداء السيء للرئيس الحالي يمكن تصحيحه أما إذا انخدع المواطنون هذه المرة أيضاً بالحركات البهلوانية وتأثروا بالإحصائيات المزيفة والوعود الكاذبة فعند ذلك يتحمل الشعب الأمريكي كله مسؤولية تشوه صورة بلاده أكثر أمام شعوب العالم.

إن الأسباب الحقيقية للصراع بين بولتون وترامب قد كشفناها في مقالات سابقة في مجلة " الشراع " الموقرة، وعلة إقالته قد ذكرناها هناك أيضاً، وقد تنبأنا بعزله قبل وقوعه وذلك لما وسّط الرئيس الأمريكي رئيس وزراء اليابان شينزو آبي وحمّله رسالة مكتوبة إلى آية الله خامنئي لعله يوافق على مفاوضات معه متعهداً التخلص من جون بولتون الخصم العنيد لإيران وواعداً باستعداده لإعطاء الجمهورية الإسلامية أكثر مما قدم سلفه باراك أوباما، لكن المرشد الإيراني رفض حتى قراءة رئيس الوزراء الياباني الرسالة الأمريكية أمامه، وقد اعترف بولتون في كتابه بما سبق وأوردناه في عدد من مقالات وهو مدى لهفة الرئيس ترامب للقاء وزير الخارجية الإيراني الذكتور محمد جواد ظريف على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة والجهود الحثيثة التي بذلها في حينه الرئيس الفرنسي ماكرون لأقناع ظريف بذلك، إضافة إلى رفضه كافة تحريضات بولتون له للرد على الخطوات العسكرية الإيرانية من محاصرة قطع الأسطول الأمريكي في مياه الخليج، ثم إسقاط الطائرة المسيّرة العملاقة غلوبال هوك رمز التقنية الأمريكية الحديثة بدعوى أنه لم يُؤدِ إلى قتل أي جندي أمريكي، ثم قصف إيران أهم قاعدة عسكرية في العراق في عين الأسد بالصواريخ البالستية وتدميرها ردّاً على اغتيال قائد لواء القدس في الحرس الثوري  الفريق قاسم سليماني، لكن الرئيس الأمريكي كذب على شعبه في حينه وأخفى عدد الضحايا والمصابين مدعياً أن الأضرار كانت طفيفة واقتصرت على بعض المباني وأنه لم يُصب أحد جراء القصف، لكن الصور التي شاهدها العالم والإعترافات التي صدرت عن الجنود والضباط في القاعدة كشفت حجم الأضرار الكبير، ويوماً بعد يوم أعلن بالتقسيط أعداد المصابين حتى زاد عن الـ ١١٠ وبعد فترة اعترفت وزارة الدفاع الأمريكية أنها تسلم في حالات كثيرة جتامين جنودها لشركات جمع الثمامة لتقوم هي بالتخلص منها عبر إتلافها داخل كميات القمامة أو إحراقها، وفي خضم التهديدات الأمريكية بالتصدي لناقلات النفط الإبرانية قامت إيران بأرسال ٥ شحنات نفط إلى فنزويلا الحديقة الخلفية للولايات المتحدة متحدية حصارها، وذلك على مرأى من قطع البحرية الأمريكية المنتشرة في المنطقة من دون أن تقوم بأي تحرك، وبعد ذلك تمّ إرسال سفينة كبيرة تحمل شحنة مواد غذائية لفنزويلا في تحدٍ جديد للحصار الأمريكي على حكم مادورو من دون أية مواجهة، كل هذا الضعف أمام الجمهورية الإسلامية ما يشكوه جون بولتون في كتابه من الرئيس ترامب، إذ توقع وهو الحليف القوي لمنظمة " مجاهدي خلق " الإرهابية  أن وصوله لأهم موقع في صنع القرار الأمريكي سيمكنه من اداء دينه للمنافقين، لكنه فوجئ بحقيقة أن الرئيس ترامب لا يريد أصلاً الدخول في أي صدام عسكري ومواجهة حقيقية مع إيران، فكان أن أدى التصادم بين الرجلين إلى التخلص منه وتقديمه " قرباناً " في عملية التقارب مع النظام الإسلامي الإيراني.

لكن قادة الجمهورية الإسلامية الذين يعرفون حقيقة منهج الرئيس الأمريكي ويفهمون ألاعيبه ويدركون حقيقة تكتيكاته ويرون كل يوم تنصله من تعهداته ونكثه بعهوده وخروجه من الإتفاقيات الدولية بشحطة قلم أو عبر تغريدة تيوترية فإنهم كانوا يشترطون دائما العودة إلى الإتفاق المبرم معها سابقاً كتعبير عن احترامه للمواثيق الدولية ثم ربما تفكر إيران بعد ذلك في الجلوس معه على طاولة المفاوضات.

ولقد حاول ترامب أيضاً حتى قبل فترة وجيزة تقديم تنازلات عملية للجمهورية الإسلامية كَـ " طُعم " أخير لإيران وقام بالإفراج عن عدد من الإيرانيين المعتقلين في الولايات المتحدة بتهمة التجسس وتسريب معلومات مهمة إلى إيران والتحايل على العقوبات الأمريكية ضد طهران، وحتى أنه قرر الإفراج عن اللبناني قاسم تاج الدين المعتقل في الولايات المتحدة منذ العام ٢٠١٧ بتهمة التفلت من العقوبات الأمريكية لمصلحة تمويل "حزب الله"، ثم انطلق الرئيس ترامب بعد تقديم الشكر للجمهورية الإسلامية على مقابلتها بالمثل وإطلاق سراح عدد من المعتقلين الأمريكيين لديها إلى القول بأن نجاح الخطوات هذه يدلّ على إمكانية التلاقي والتعاون بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية في مسائل أخرى أيضاً.

إن أركان الإدارة الأمريكية يؤكدون دوماً أن الهدف من فرض العقوبات المتدحرجة هو إجبار القادة الإيرانيين للجلوس مع ترامب فقط لا غير، وأنه ليس في نيتهم أبداً إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، وأن جميع العقوبات ستُرفع دفعة واحدة إذا تأكد ترامب من قبول ايران التفاوض معه، وهذا يعني لمن له أذن يسمع  أن التودد الأمريكي ، بل إن كل ما نراه من مشاهد إحتفالية وحسن استقبال في البيت الأبيض هو مجرد تمضية وقت حتى توافق الجمهورية الإسلامية في إيران على الجلوس مع الرئيس الأمريكي، وعند وصوله إلى مبتغاه إن أمكن ذلك فإن دونالد ترامب سوف يبرز  عشقه القديم لإيران أكثر بكثير مما أبدى من الحب لزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون.

ولقد أكد ترامب مرة جديدة قبل أيام قليلة أنه على استعداد لإبرام إتفاق " جيد " سريعاً مع إيران قبل الإنتخابات الأمريكية المقبلة في شهر تشرين الثاني المقبل، لكنه أسف لأن الإيرانيين قد قرروا حرمانه شخصياً من هذه الورقة الثمينة جداً والتي يحتاج إليها كثيراً خاصة بعد الفشل الذريع في الملف الكوري الشمالي، و " تمسخر " الزعيم الكوري الشمالي " كيم جون أون " به، و جرّه ثلاث مرات للقائه من دون أن يقدم له سوى " رسائل الحب " الفارغة، والتي كشف بولتون في كتابه الأخير أن تلك الرسائل لم تكن منه شخصياً بل صادرة من دائرة التشريفات عنده، وهذه أكبر إهانة للرئيس الأمريكي.

ولقد عرف زعيم كوريا الشمالية الحدث   حقيقة الحاجة الماسة الأمريكية إليه، وأن التودد هذا هو رد فعل على الفشل في الملف النووي الإيراني وعدم قبول المسؤولين فيها الرضوخ لمطلبه، وعليه تصرف باستهزاء واستخفاف مع رئيس الولايات المتحدة كما يؤكد بولتون في مذكراته حتى وصل الأمر بدونالد ترامب أن ينتظر بفارغ الصبر إهداء الزعيم الكوري الشمالي وردة له بمناسبة عيد ميلاده والتي لم تصله، وقد بلغ تملقه لزعيم كوريا الشمالية إلى حد انزعاج وزير الخارجيه بومبيو من ثرثرة رئيسه كثيراً جداً مع أون وتسريب ورقة بهذا المعنى إلى بولتون تتضمن شدة انزعاجه من تصرفات ترامب.

إن اعترافات بولتون في مذكراته هو شهادة شاهد من أهله، علماً بأنه قد احتفظ بكثير من الأسرار ليلوّح بها إذا لزم الأمر وفي حال حاول الرئيس ترامب أن ينفذ تهديده له بأن يدفع ثمناً باهظاً جداً بسبب ما فضحه من أسرار، لكن الذين يقرأون الكتاب يمكنهم التوصل إلى معرفة كثير مما يدور في كواليس البيت الأبيض والذي ينعكس بالضرورة على أداء الإدارة الأمريكية وتتأثر به سياسات الدول الحليفة وتلحقه قرارات الأنظمة التابعة والمرتهنة، لكن الفضائح كانت تبقى في السابق خفيّة نسبياً عن أعين العالمين وقام دونالد ترامب بأدائه الفظ إلى كشف المستور وفضح القبائح، وأعلن أمام الجميع ما يدور في المطبخ الرئاسي من مؤامرات داخلية للمسؤولين ضد بعضهم البعض وخارجية ضد دول لا تستسلم لمزاج هذا الرئيس وذاك، فإذا عقد رئيس اتفاقاً إقليمياً أو دولياً يأتي مَن بعده ليلغي ما تمّ الإتفاق عليه سابقاً ويعمل على تأسيس شيء ممهور باسمه، وويل لمن تمسك بالإتفاق الأول ولم يتكيف مع مزاج الرئيس الجديد ولم يُرضِ خاطره ولم يصفق لخطاباته ولم يتبع مواقفه.

إن مجموع الوقائع التي عايشناها جميعاً تحتم على العقلاء منا حيثما كانوا أن يتكاتفوا لمواجهة العنجهية الأمريكية الفاضحة هذه المرة حفاظاً على الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية التي خصّ الله سبحانه بني آدم بها بقوله: ( ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً ) صدق الله العلي العظيم.

السيد صادق الموسوي

 

الوسوم