بيروت | Clouds 28.7 c

بكاء وخداع الظالمين / بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 25 حزيران 2020

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {وجآءو أباهم عشآءً يبكون قالوا يا أبانا إنَّا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنَّا صادقين وجآءو على قميصه بدم كذب} الآية سورة يوسف.

في هذه الآيات ذكرُ شىءٍ من خبر إخوة نبي الله يوسف الصدِّيق عليه السلام الذين فعلوا تلك الأفاعيل الخسيسة فتآمروا على أخيهم النبي الكريم وأرادوا قتله ثم استقرَّ رأيهم أن يُلقوه في البئر فلم يترددوا في ذلك وأدلوه فيها حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت فكان في البئر ماء فوقع فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وجعل يبكي فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرجموه بالحجارة فمنعهم أخوه يهوذا، وأوحى الله إليه أنه سينجو من هذه المحنة وسيخبر إخوته بصنيعهم في وقتٍ يكون له فيه العزة والسيادة عليهم وهم لا يعلمون أمره. وكان فاعلو ذلك إخوته العشرة وهم من عدا بنيامين عليه السلام فإنه لم يشاركهم بل ولم يكن على علمٍ بما يكيدون، وبنيامين هو أخو يوسف عليهما السلام لأمه وأبيه، وقد أوحي إليه بالنبوة فيما بعد، أما العشرة الآخرون فهم إخوته لأبيه ولم يكونوا أنبياء ولا تصح لهم النبوة لأن الأنبياء معصومون من مثل تلك القبائح التي صدرت منهم، وقد عمدوا قبل أن يُلقوا يوسف عليه السلام في البئر إلى نزع قميصه عنه ثم غمسوه في دم جديٍ ذبحوه وقدموا على أبيهم نبي الله يعقوب عليه السلام في عتمة الليل يبكون.

دموع التماسيح

قال السمعاني في "تفسيره": "قال أهل المعاني: جاءوا في ظلمة الليل ليكونوا أجرأ على الاعتذار بالكذب، فروي أن يعقوب عليه السلام سمع صياحهم وعويلهم فخرج وقال: ما لكم هل أصاب الذئب من غنمكم شيئًا. قالوا: لا وإنما الذئب أكل يوسف". وفد سألهم يعقوب عليه السلام: أين القميص؟ فجاءوا بالقميص عليه دم كذب وليس فيه خَرقٌ". وفي "تفسير السمعاني" عن الحسن البصري أن يعقوب عليه السلام قال: " كيف أكله الذئب ولم يشقَّ قميصه ما عهدت الذئب حليمًا" وهذا تهكمٌ بهم وتعريضٌ بكذبهم وإيذانٌ بأن صنيعهم لم يمُرَّ عليه، قال تعالى: {قال بل سوَّلت لكم أنفسكم أمرًا فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون} سورة يوسف. 

ولسنا في معرض سرد القصة وتفاصيلها وإنما أردنا تسليط الضوء على جزء من فعلهم لندخل منه إلى الكلام عمَّا نحن بصدده، والقصة بتمامها في كتاب الله الكريم في سورة يوسف حريٌ أن يعتبر بآياتها من سمعها وأن يتَّعظ بتلاوتها أولو الألباب، فقد قال الله تعالى: {لقد كان في يوسف وإخوته آياتٌ للسائلين} سورة يوسف. أي عبرٌ للسائلين عن أخبارهم.   

قال الرازي في "التفسير الكبير": "وروي أن امرأة تحاكمت إلى شُريح (قاض مشهور) فبكت فقال الشعبي (من أئمة السلف): يا أبا أمية أما تراها تبكي؟ قال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمةٌ كذَبة لا ينبغي للإنسان أن يقضِي إلا بالحق". وصدقَ شُريح فإن الحق أحقُّ أن يُتَّبع ولا ينبغي ترك الحق لمجرد مظاهر البكاء والضَّعف فإن العاقل لا يقف عند دموع المخادعين بل يبحث في تفاصيل القضايا ويُعالج الأمور برويةٍ ليصل إلى النتيجة الصحيحة، فربما جعل الظالمُ من البكاء والمسكنة وسيلةً للوصول إلى ما يصبو إليه بالباطل فينخدع به أولئك الذين لا يملكون فطنة شُريحٍ. وقد قيل:

وجُلُّ الناس خدَّاعٌ                                         وجانٍ وابنُ خدَّاع

يعيثون مع الذئب                                         ويبكون مع الراعي  

فكم يصل مخادعٌ إلى مراده بدموعٍ تنهمر من نفس كاذبة وكم تكون تلك الدموع أحيانًا سببًا في ظلم بريءٍ مما اتهم به كبراءة الذئب من دم يوسف عليه السلام أو تكون سببًا في اضطهاد شريفٍ، أضف إلى ذلك بكاء المرائين الذين يبكون ليُقال فيهم أتقياء أو ليعتقد الناسُ فيهم الصلاحَ فيعطوهم من أموالهم لظنهم أنهم يصرفونها في وجوه البر فإذا بهم يأكلون أموال الناس بالباطل، أو يتظاهرون بالمسكنة استدرارًا لعطف زيدٍ أو شفقة عمروٍ أو لمأربٍ آخر من المآرب الدنيئة الحقيرة، بينما ينبغي لمن كان له قلبٌ أن يخشع لله العظيم ولمن رزقه الله عينين هطَّالتين أن يبكي مثل بكاء الصالحين خوفًا من الله تعالى وندمًا على الذنوب التي يُثقل اقترافُها الظهرَ لتكون الدموع مفتاحًا لصفاء القلوب ودواءً ناجعًا لأدوية النفوس لا تلبيسًا على الناس  كدموع التماسيح الكاسرة التي لا تبكي إلا إذا كانت الفريسة أكبرَ من أن ينطبق عليها فَكُّها كما يقول أهل الاختصاص، ولكنَّ بعض الناس يجعلون من الدموع شباكًا يصطادون بها الفريسة.

لا تنخدعنَّ بالمظاهر بل احكم بالحق

ومن كان في مواقع المسئولية أو كان ممن يقصده الناس لقضاء حاجاتهم فليتذكر أن مظاهر الضَّعف والفقر وحدها ليست دليلًا كافيًا لتحكم من خلالها على الناس بالبراءة أو بالصلاح أو بالحاجة والعَوَز ما لم تقم القرائن المطلوبة والبراهين الثابتة التي يرى طالب الحقيقة الحقائق في إشراقة نورها الثاقب فإن الحصيف لا يخدعه سحر عيون الكاذبين.

فلا تغُرَّنك المظاهر وليكن تعاملك مع الآخرين بمقتضى الحكمة وليكن قرارك مبنيًا على حقائق قاطعة لا على الظنون والأوهام حتى لا يُؤخذ صالحٌ بجريرة طالحٍ فإن إدراك عين الصواب إنما يتأتى بالبحث والتدقيق لا بالدموع ولا بمظاهر الذُلِّ والخنوع، وقد قال الله تعالى: {وما يتَّبع أكثرهم إلا ظنًا إن الظنَّ لا يُغني من الحق شيئًا} سورة يونس. قال السمعاني في "تفسيره": "معناه إن الظنَّ لا يقوم مقام الحق بحال".

والظن أن يشكَّ المرء في حدوث أمرٍ مثلًا لكن يترجَّح عنده جانب حصوله من غير جزمٍ فيظن حدوثه أما إن لم يترجَّح حدوثه أو عدم حدوثه فهو شك وكلا الأمرين لا يُغنيان عن الحق.

فانظر أيها المنصف إلى عظيم فطنة يعقوب عليه السلام واقتد به في حسن النظر وتأمل مقالة القاضي شريح، وإليك زيادةً على ذلك ما رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشقٍ" عن القاضي العظيم مضرب الأمثال في الذكاء إياس بن معاوية المزني: "لست بِخبٍّ والخِبُّ لا يخدعني" والخِبُّ المخادع والمعنى لست مخادعًا ولا أنخدع بحيلة المخادع.

والحمد لله أولًا وآخرا.        

الوسوم