بيروت | Clouds 28.7 c

حاميها حراميها / بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 16 حزيران 2020

منذ عقود عدة والولايات المتحدة الأمريكية نصبت نفسها حامية لحقوق الإنسان في العالم، فوزارة الخارجية الأمريكية تُصدر كل عام لائحة بالدول " المنتهكة " لحقوق الإنسان و " المُحترمة " لها، وبناءً على تقييمها وتصنيفها للدول توافق على إرسال المساعدات إليها أو تحجبها عنها، وتفرض عقوبات عليها أو ترفعها عنها، وتتحرك في مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار ضدها أو تعمل على إلغاء قرار سابق من المنظمة الدولية؛ هذا ما شاهدناه طوال العقود الماضية أي بعد أن انتصر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية على ألمانيا النازية، واستحوذت الولايات المتحدة منذ ذلك الوقت على المركزين الأساسيين للقرار الدولي أي الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي على أراضيها وابتدعت لنفسها وشركائها في الحلف حق النفض " الفيتو " أي أن صوتاً واحداً معارضاً للدول الخمس الدائمة العضوية يعطل موافقة الأعضاء الـ ١٤ الآخرين الذين يمثلون الدول العظمى إضافة إلى الأعضاء غير الدائمين الذين يتم اختيارهم من بين ممثلي دول العالم حسب آلية معينة.

صحيح أن الدول الكبرى الأخرى أيضاً تمتلك حق النقض كما أمريكا لكن الوقائع تشهد أن اليد الطولى هي للولايات المتحدة وهي الأكثر استعمالاً لهذا الحق طوال هذه السنين، فحين لا تُعجب الإدارة الأمريكية أي قرار في مجلس الأمن يسارع مندوبها إلى رفع يده بعلامة الإعتراض واستعمال حق النقض فيتعطل بذلك القرار أما حينما تقرر الولايات المتحدة شيئاً وتعارضها باقي دول المنظمة الدولية فإنها تتصرف بصورة أحادية ومن خارج المنظمة الدولية ولا يمكن للآخرين إدانة تصرفها أو الإعتراض عليها لأنها تستعمل فوراً حق النقض لوقف قرار الإدانة أو الإعتراض.

أما الجمعية العامة فهي وإن كانت متحررة من حق النقض للولايات المتحدة والدول الكبرى وكل الدول متساوية في حق التصويت لكن قراراتها غير مُلزمة أي أنها شكلية، وهي تجتمع مرة كل عام دورياً إلاً في حالات خاصة ويلقي أثناءها زعماء دول العالم خطابات رنانة وينفضّ الإجتماع ويعود كل زعيم إلى بلده مفتخراً أمام شعبه بالخطاب الدي ألقاه على منصة الأمم المتحدة لكن توصيات الجمعية العامة تُلقى في أكثر الأوقات في سلة المهملات ولا تلتزم بها أية دولة وليس للخروج عليها أية عواقب وتبعات، أما الأمين العام للأمم المتحدة فمن البديهي أن يحظى شخصه بموافقة الولايات المتحدة صاحبة الأرض أولاً كي يتم انتخابه للمنصب مع الحصول على تأييد الدول الكبرى الأخرى، وهو أساساً لا يستطيع إلاّ إصدار التمنيات وبيان الرغبات ولا يملك أصلاً صلاحية اتخاذ قرارات بدون موافقة مجلس الأمن الدولي وأعضاء الجمعية العامة.

إضافة إلى مقري الأمم المتحدة فإن مقر صندوق النقد الدولي أيضاً موجود في العاصمة الأمريكية وللإدارة الأمريكية فيه ما يُشبه حق النقض أيضاً أي أن لها حق الإعتراض مثل باقي الدول، لكن تعامل الصندوق في تقديم القروض والمساعدات الإقتصادية يتمّ دوماً بالدولار الأمريكي، وهنا يمكن لأمريكا التدخل وحظر استعمال العملة الأمريكية إدا أرادت عرقلة أي قرار في المؤسسة الإقتصادية العالمية.

إن وجود مركز القرار السياسي والإقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية يجعل دول العالم رهينة للمزاجية الأمريكية، وتستطيع هي التلاعب بباقي المؤسسات الدولية نذكر على سبيل المثال لجنة حقوق الإنسان الدولية في جنيف، ومنظمة الصحة العالمية في جنيف،  والصليب الأحمر الدولي في جنيف، والمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، ومحكمة العدل الدولية في لاهاي، ومنظمة العفو الدولية في لندن، ووكالة الطاقة النووية الدولية في فيننا، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة ( يونسكو ) في باريس، وذلك من خلال الضغط المالي على أي منها في حال تصرفت باتجاه يتعارض ومزاجية الإدارة الأمريكية لكون مساهمة الولايات المتحدة في ميزانية أي منها أساسية، أو يتمّ التأثير على قراراتها عبر الضغط على عدد من الدول الأعضاء في تلك المؤسسات بأساليب متعددة لترضخ لإرادتها ومن ثم منع حصول أغلبية في التصويت على أي قرار أو تفريغ المقرارات من محتوياتها والحد من تأثيراتها، وفي حال عجزت عن التأثير عبر الضغظ المالي والأساليب الأخرى التي أوضحناها فإنها تعلن بكل بساطة خروجها من المؤسسة العالمية وعدم الإلتزام بما يصدر عنها من قرارات، وهكذا فعلت بلجنة حقوق الإنسان الدولية لما أدانت الكيان الصهيوني عام ٢٠١٨ ولم تفلح مختلف أنواع الضغوط الأمريكية في الحؤول دون صدور القرار، وهي أصلاً لم تدخل في المحكمة الجنائية الدولية ومنظمة العفو الدولية لكنها ترى قراراتها مُلزمة لغيرها من الدول.

إذن المشكلة في أساسها أن سلطة الولايات المتحدة شبه شاملة على مراكز القرار العالمية بمختلف اختصاصاتها وشُعبها، وإذا أراد شعب أو أرادت دولة العيش بحرية فلا بد لها من الإستعداد لمواجهة مختلف الواجهات الدولية للإرادة الأمريكية، ومقاومة ألوان مختلفة للإدانات " الدولية "، ونحن نرى الوقاحة الأمريكية حتى في التعامل مع الدول الأخرى ذات العضوية الدائمة كروسيا والصين حيث تننطح كل يوم أمريكا للأعتراض على أمر يحدث عندهما أو قرارات تتخذها الحكومتان فيهما وتهدد بفرض عقوبات من جانبها عليهما لأنها تعرف  أن القرارات الدولية متعذرة بسبب حق النقض لديهما.

إن التصرف الأهوج للرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ اليوم الأول لوصوله إلى البيت الأبيض وإعلانه الخروج من المعاهدات الدولية التي لا تُعجبه وقرارات الأمم المتحدة التي لا تتوافق مع مزاجه ومواجهة مختلف دول العالم بذرائع مختلفة جعل حتى المشغوفين بالحضارة الغربية عموماً والمنبهربن بالأنموذج الأمريكي على الخصوص يخجلون في الدفاع عنهما اليوم فكيف بالمباهاة بهما، ولا يجدون سبيلاً لتبرير سلوك الإدارة الأمريكية على الصعيد الدولي على وجه الخصوص، لكنهم على الرغم من ذلك كانوا يفخرون حتى الأمس القريب بالتجربة الأمريكية خصوصاً والغربية عموماً في مجال المساواة بين مواطنيها واحترام الإنسان من أفراد شعوبها بمعزل عن اللون والجنس والقومية، وجاءت التطورات على الساحات الأمريكية والبريطانية والفرنسية في المدة الأخيرة لتسقط ورقة التين وتبين عورات مدعي احترام حقوق الإنسان في تلك البلاد وتفضح الأكاذيب التي طالما روجها عملاؤها لتبرير الخنوع لها والإستسلام أمامها، حيث رأى العالم بالصوت والصورة وبصورة مباشرة وحشية تعامل حامي القانون الأبيض في الولايات المتحدة مع مواطنه من العرق الأسود، وشاهد جميع سكان الأرض بأم العين حقيقة تجذر التمييز العنصري في أعماق نفوس كثيرين في بلاد العم سام وغيرها من الدول الغربية حيث رأينا المواجهات العنيفة بين مناصري العنصرية والمناهضين لها في عدد من المدن الأمريكية والبريطانية، والأعجب أن تلك الدول المباهية برعاية حقوق الإنسان تبين أنها قد نصبت في أماكن متعددة  وفي عدة مدن تماثيل ونُصُب تخليداً لذكرى رموز تجارة الرقيق في القرون الماضية، وذلك بعدما أقدم المناهضون للعنصرية في تطور ذي معنى على تحطيم تلك التماثيل وإلقائها في البحر أو تشويه صورها بإلقاء الأصباغ عليها وذلك أثناء التحركات الشعبية في الولايات المتحدة وبريطانيا بشكل خاص، وقد ووجه مع الأسف هذا العمل الشعبي باستنكار السلطات الرسمية واعتبارها تلك التماثيل جزءاً من تاريخ البلاد وانتشال التمثال الذي ألقي في البحر في بريطانيا لإعادته إلى مكانه، وهذه وقاحة ما بعدها وقاحة حيث تصرّ السلطات البريطانية على الاحتفاظ بهذه الرموز العنصرية البغيضة وتعدّها من تاريخها، بل وتقرر في تحدّ فاضح للحشود المعترضة إعادة نصب التمثال بعد إسقاطه، وفي الولايات المتحدة نجد أن وحشية التعامل العنصري لم تقتصر على حادثة واحدة وقعت بحق جورج فلويد في مدينة مينيابوليس من ولاية مينيسوتا بل سبق هذا الحادث عشرات الحوادث المشابهة في مدن وولايات عديدة قبل هذا التاريخ ولم يتوقف قتل المواطن الأسود بيد الشرطي الأبيض حتى بعد جريمة فلويد وما اعقبها من تحركات شعبية مليونية غاضبة في أرجاء الولايات الأمريكية بل أقدم شرطي أبيض أيضاً على قتل أسود آخر في اطلنطا، وتنشر وسائل الإعلام يومياً مشاهد مروعة عن وحشية تعامل الشرطة مع المواطنين ذوي البشرة السوداء، والعجيب أن الرئيس الأمريكي لم يتبرّأ من الجريمة ولم يدِن المجرم بل قال بأن عملية الخنق حتى الموت من قبل الشرطة لها ما يبررها في بعض الأحيان، ومن جهة ثانية شجع أنصاره العنصريين على النزول بالهراوات والعصي إلى الشوارع لإرعاب الجموع المعترضة وفي وضح النهار، ثم أصرّ على الإستخفاف بالحشود المليونية المعارضة للتمييز العنصري من خلال القول بأن المتظاهرين ليسوا أساساً من الذي يصوتون في الإنتخابات لصالحه ولذلك فهو لا يكترث بخطواتهم ومواقفهم.

إن التطورات المرتبطة بمعارضة التمييز العنصري في الولايات المتحدة وتوسع التحركات التضامنية في كثير من بلاد العالم تلقي بثقل المسؤولية الدينية والإنسانية على عاتق جميع أفراد الشعوب الإسلامية الذين سمعوا الحديث النبوي المتفق عليه لدى كافة المسلمين وهو " لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى "، ولا يرضى الله ولا رسوله أبداً أن يقف المسلم مكتوف الأيدي وغير مبالٍ بما يعاني منه البشر في أية مناسبة جامعة، ولا أدري ماذا يمكن أن نجيب رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الوقوف بين يدي الله إذا قيل لنا إن أهم أهداف الرسالة الإسلامية كانت نصرة المظلوم في اي بقاع العالم كان بغضّ النظر عن الدين والعرق والجنس، والحال أن المسلمين يتوانون في مؤازرة المواطنين ذوي البشرة السوداء المضطهدين اليوم في الولايات المتحدة والدول الغربية، ويترددون حتى في إظهار مساندتهم بمجرد اللسان والكلمة، من خلال التحركات الشعبية كما هو مشهود في بلاد كثيرة غير إسلامية.

إن التحركات الشعبية المستمرة والمتصاعدة هذه الأيام في الولايات المتحدة وغيرها ضد التمييز العنصري البغيض تفسح في المجال أمام الأمتين العربية والإسلامية لينطلقوا في بلاد العالم ويبشروا بالإسلام الحنيف الذي جعل بلال الحبشي أول من يصعد إلى سطح الكعبة لحظة فتح مكة وأمام مرأى من المؤمنين والكافرين ليبين نظرة الإسلام العادلة للإنسانية أجمعين، وأيضاً كان بلال هذا مؤذن الرسول الخاص والذي أخّر النبي صلى الله عليه واله يوماً صلاته بسبب تأخر بلال هذا عن الوصول في وقته لرفع الأذان، ولقد أجاب رسول الله على المحاولات المتكررة لاستبداله بآخر جميل الصوت صحيح الأداء للحروف إذ كان بلال يلفظ دائماً السين بدل الشين، فقال صلى الله عليه واله : " سين بلال شين عند الله ".

إن على علماء الدين الأجلاء والدعاة المخلصين من كافة المذاهب وعلى اختلاف مشاربهم وأيضاً النخب العلمية المنتشرين في دول العالم أن يضعوا خلافاتهم الثانوية جانباً وبستغلوا فرصه استعداد الناس في مختلف الأقطار لسماع المنطق السليم فيعرّفوا شعوب العالم بحقانية الإسلام العزيز عبر إبراز وجهه الناصع الجميل بعدما شوّهه الأدعياء الكاذبون والتكفيريون الحاقدون، ويُدلّلوا على كذب ادعاءات دول الـ " فرنجة " و " المتفرنجين " في تصوير الحياة في بلاد الغرب وفي الولايات المتحدة على الخصوص أنها كالعيش في الجنة من حيث أجواء الوئام والمحبة والتساوي بين الناس، وأن الأمم " المتقدمة " هناك لا تنظر إلى ألوان البشرة بل إلى قدرات كل فرد وطاقاته، وإذا بالحقيقة الكامنة تتكشف في أول مواجهة ويستعيد الأمريكيون من أصول أفريقية ذكريات ما تحمّله أجدادهم الذين جيء بهم عبيداً من احتقار وأذى على يد العنصر الأبيض الذي احتل الأرض وقضى على أصحابها الأصليين وجاء بعشرات الألوف من الأحرار المستضعفين في أفريقيا عنوة لتتناقلهم الأيدي بيعاً وشراءً في هذه البلاد، ثم أظهروا بعد قرون أنهم قد ألغوا العبودية في البلاد لكن أكثر النفوس في هذه البلاد وحتى يومنا هذا لا تزال تنظر إلى ذوى البشرة السوداء بعين الإحتقار وتتعامل معهم بدونيّة وتراهم أقل مرتبة ومنزلة مقابل من هم بيض البشرة، في حين أن الإسلام الحنيف قد اعلن قبل أكثر من ١٤ قرناً وبكل صراحة ووضوح أن الناس سواسية كأسنان المشط، وأن التفاضل لا يكون إلاّ بالتقوى والعمل الصالح، وقد ورد هذا المعنى جلياً في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: ( يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) صدق الله العلي العظيم.

السيد صادق الموسوي

الوسوم