بيروت | Clouds 28.7 c

الحلقة الأولى: حوار في العمق مع برهان غليون حول (عطب المعارضة السورية): باريس: حوار محمد خليفة

  • السلطة عندنا: طبقة لقيطة تتألف من ثعالب وضباع تنهش بالمجتمع
  • التغيير حصل فعلا، وأسد اليوم غير أسد الأمس، والعالم ينتظر استبداله !
  • التخلص من الاحتلالات الداخلية شرط التخلص من الاحتلالات الخارجية
  • لماذا غضبت المعارضة ولم ترد على الاتهامات الموجهة لها ؟!
  • المعارضة تفتقر للرؤية ، والاستراتيجية ، والشعور بالمسؤولية

باريس- المحاور: محمد خليفة

 الدكتور برهان غليون : مفكر ومثقف يمتاز بالجدية والفعالية والثورية ، أستاذ علم الاجتماع في جامعة السوربون على مدى أربعين عاما ، ورائد الدعوة الى ( الخيار الديمقراطي ) منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي للخروج من مأزق الانسداد التاريخي ، وعطالة النخب ، ودورانها في دروب اليسار الماركسي والقومي التي لم تؤد  الى أفق ، بل جعلتنا ندور بموازاة النظام المتوحش .

عرفناه منذ بداية الطريق في أعقاب هزيمة حزيران 1967 مثقفا مستقلا عن الأحزاب ، ولكنه مثقف طليعي منتم ، ملتزم ، بالقضايا السورية والفلسطينية والعربية . غادر وطنه ضمن مواكب رحلة المثقفين الى الشمال بشكل متزامن مع صعود الطغيان وبروز مشروع حافظ أسد للعودة بسورية الى القرو سطية .

درس علوم الاجتماع في باريس ، ولم يتوقف عن النضال الفكري والسياسي . تميز باعتداله ووسطيته وانفتاحه على كافة التيارات السياسية السورية .

أول من نادى بالخيار الديمقراطي بديلا عن الاستبداد المغلف باليسار القومي – الاشتراكي ، وحذر من أزمة لا براء منها ولا حل لها سوى بالديمقراطية . مع ربيع دمشق عاد الى سورية في زيارات متتالية يبذر بذور التغيير والثورة ، ويدعو لإنقاذ سورية من أزماتها المستفحلة ، داعيا للتغيير السلمي بعد وفاة حافظ الأسد ، وواجه عنت السلطة ورفضها لما يطرحه . ومع اشتعال  ثورة 2011 الشعبية تقدم صفوف النخب السورية داعيا الى تحالف وطني واسع ليكون مظلة لثورة الشارع وحراك الشباب ، وأجمعت كل التيارات عليه ليكون أول رئيس لأول مؤسسة تمثل الثورة وتجمع كل أطياف المعارضة ( المجلس الوطني السوري ) ولكنه قبل أن يكمل العام استقال بعد أن تبين له أن المعارضة هزيلة وتفتقر للكفاءة والصدقية والاخلاص وتتلهى بالأشياء الصغيرة . وبعد عدة سنوات أصدر كتابه " المدوي " [ عطب الذات / وقائع ثورة لم تكتمل ] الذي شرح التجربة في بداياتها الأولى ، وبين أخطاء المعارضة بوضوح وشفافية وشجاعة ، ووجه لوائح اتهام لغالبية قوى المعارضة ، وحملها قسطا كبيرا من المسؤولية عن اخفاق التجربة على الصعيد السياسي . ورد الآخرون على الاتهامات الموجهة لهم بالرفض ، ووجهوا اتهامات مضادة لمؤلفه ، ولكنهم عجزوا عن الرد  القوة والتوثيق العلمي الصريح نفسه ، ولم يجرؤ أحد منهم على الدخول في سجال علني ، بل لم يكتب أحدهم مقالا واحدا يدافع عن نفسه .

الحوار التالي يدور حول ما ورد في الكتاب الكبير حجما ومادة ومحتوى وأهمية الذي ستصدر منه الطبعة الثالثة قريبا ، ويتوسع الحوار الى كل قضايا الثورة  .

      البدء من "عطب الذات" :

1 –  استاذ برهان غليون : هل قلت كل ما تريد ، وما يجب أن تقوله ، في كتابك (عطب الذات) ؟

ج : هيهات. ذكرت بالكاد ما لا يمكن تجاهله لفهم ماجرى لنا ، وبعض الأسباب التي بدت لي أساسية لفهم أخطائنا في تنظيم قوانا ، وانتزاع مكاسب سياسية كانت في متناول اليد ، لو احسنا أداءنا السياسي والاعلامي والعسكري . لكن هذا غيض من فيض مما ينبغي ان يتناوله الباحثون في المستقبل لتحليل تجربتنا الماضية ، والتعمق في وصف احداثها ، والكشف عن دروسها . وأنا أشبهه بإزالة بعض الأنقاض التي تقبع على صدورنا ، وتشل حركتنا.

لا تزال أمامنا في هذا المجال ، وجيل الشباب الذي شهد الثورة بشكل خاص ، مهام كثيرة ينبغي تحقيقها قبل ان نصل إلى الغاية النبيلة التي ضحى من اجلها ملايين السوريين ، بعضهم بأرواحهم، وبعضهم بأرزاقهم ، وبعضهم بتشردهم وغربتهم وبؤسهم . والمقصود طبعا إعادة بناء المجتمع والدولة والعقل والضمير والعمل والانتاج . وهذه مهام أصعب بكثير ، وينبغي أن نركز الآن عليها ، ولا نبقى غارقين في مناقشات عقيمة عمن هو سبب الخراب والدمار ، والبحث في الانقاض عن شواهد وأدلة لإدانة هذا أو ذاك ، بينما السبب واضح أمامنا كالشمس : نظام العبودية والقهر والاستئثار بالسلطة واستملاك الموارد ومنها البلاد نفسها ، ورهن مصيرها ومستقبل شعبها بمصالح دنيئة . لكن ما لم ننجح في معرفة لماذا استطاعت سلطة قهرية انقلابية غاشمة أن تتحكم بنا، أي بشعب غاية في النشاط والحركة والذكاء ، خلال نصف قرن ، وتقودنا إلى المذبحة ، لن نتمكن من الخروج من الكارثة التي نعيشها ، ولا من إقامة سلطة شرعية ، وبناء نظام اجتماعي جديد.

س 2 – ما ردك على إتهام البعض بأن غاية "الكتاب" تبرئة ذاتك من المسؤولية عن الفشل والانحراف الذي وقعت فيه المعارضة وتوزيعها على الآخرين ؟

ج - ما ينبغي ان نفهم من هذه الجملة هو العكس تماما، أي رد النقد الذي ورد في الكتاب بوصفه تهمة ، وتأكيد ان المعارضة لم تخطىء ولا تتحمل المسؤولية في شيء ، وليست في حاجة لمراجعة ، والمتهم هو برهان غليون الذي يدعي على المعارضة باطلا حتى يبريء نفسه من الذنب والمسؤولية التي يتحملها عما حصل من فشل أو انحراف . وبالفعل هذا ما شهد عليه سلوك قادة المعارضة ، من زعماء سياسيين ومثقفين ، والتي تبدو كأنها دخلت في موت سريري . ولم يبق من ضجيج هؤلاء الصاخب القديم سوى خطاب الضغينة والسخط والانتقام الذي يتعيش عليه بعض "لامنتميها" وضباعها الضالة .

لو كان ما يقوله هذا البعض صحيح  فالمدان الأول في هذه المسألة هو المعارضة التي ولت أمرها وقيادتها "لفاشل" ، نجح خلال أشهر معدودة من تاريخ ثورة لا تزال مستمرة منذ عشر سنوات ، بالرغم من مشاركة الملايين من الناس مثقفين وسياسيين ورجال أعمال وحزبيين وبسطاء الشعب ، في حرفها عن طريقها وافشالها . ثم ما هي هذه الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها خلال رئاستي المجلس والتي سكتت عنها المعارضة دهرا، إلى أن صدر "كتاب عطب الذات" فنطقت، لا أقول كفرا ولكن هرفا، ردا على انتقادها؟ ومن هو هذا العبقري الذي بدل الاعتذار عن أخطائه بكلمات معدودة، لم يطلبها منه احد أصلا ، قرر أن ينفق أربع سنوات من العمل المضني في البحث والتنقيب ومراجعة الوقائع ، والتدقيق في التواريخ لتحرير كتاب بأكثر من 500 صفحة ، ليبرىء نفسه من تهمة ، لم يوجهها إليه احد ؟ ولماذا لا يبادر من لديه رد أو نقد يستحق النقاش إلى عرضه أمام الجمهور، وننتهي من هذا الموضوع الشخصي لنناقش القضايا المهمة والمركزية؟  هل تراني حاملا سيفي مهددا من يتعرض لكتابي بالنقد او التحليل ، أو حتى التشويه؟! 

بالعكس. لقد أهديت، أنا نفسي، نسخا لا تحصى من الكتاب لأشخاص ليس لي أي علاقة صداقة معهم ، وطلبت منهم إرسال ملاحظاتهم لتصويب ما يمكن أن يكون بدر مني من نسيان ، أو خطأ في سرد الوقائع ، وتحليل الأحداث . وقد أرسل لي البعض ملاحظاتهم التي سأستفيد منها في الطبعة القادمة . فمن دون تبادل الآراء، والنقد والرد على النقد ، لا يمكن ان نتقدم لا في الفكر ولا في السياسة . أما ال"نق" والنميمة فلا يقودان إلا إلى المزيد من النق والنميمة.

للأسف، كثير مما تنتجه المعارضة من خطابات وأقاويل وتعليقات يعكس الخوف من تحمل مسؤولية ما حدث ، والتهرب من مواجهة الواقع المؤلم بل الفاجع . لكن هذا دليل ضعف وإمعان ، فيما كانت تعبر عنه في سلوكها خلال السنوات الماضية من ضعف الشعور بالمسؤولية ، والاستهانة بالوقت وبالسياسة وبالقرارات التي كان ينبغي اتخاذها . وأخشى ان نقرأ بعد وقت بدل المراجعة اتهاما مباشرا للشعب بالمسؤولية عن الكارثة ، بذريعة تخلف الشعب وانحطاطه ، أو تدينه وتعصبه القومي والقبلي والطائفي ، بدل التركيز الذي كان سائدا في البداية ، عن حق ، على بسالة ابنائه وبطولاتهم . عندئذ سنكون شركاء مع حفاري القبور ، لدفن روح الثورة الشعبية ، والقضاء على صدقيتها وشرعيتها ، وصدق الحديث عن ثورة كرامة وحرية. 

يعكس اللجوء السريع إلى منطق الاتهامات السائد من دون قرائن ولا أدلة ولا وقائع، من دون شك، الدرجة العالية من الاحتقان والغيظ والاحباط الذي يزعزع ضمير بعض أفراد النخبة الأكثر هشاشة. لكن لا يفيد هذا المنطق في شيء. إنه يشبه تخبط الغريق  الواقع في مستنقع رمال متحركة، كلما بلعط زاد غرقا. وهو أسوأ مرشد للعمل. فبدل التحلي برباطة الجأش والتصميم على التأمل والمراجعة العقلانية لإصلاح الحال يدفع هذا المنطق يفدون بنحره اخطاءهم وقصورهم وفشلهم، ويحررون أنفسهم من الشعور بالذنب ويتصالحون مع ذاتهم، لكن على غل ورياء، فتعود الأمور إلى توازنها الظاهر، لكن لا يتغير شيء في الوعي، ويبقى الواقع كما هو.

س 3  - من هي إذن هذه (الذات) التي وصفتها بالعطب في الكتاب ، وما ذا أردت تحقيقه من الكتاب ، وأين يكمن العطب الرئيسي في نظرك؟

ج - غايتي من الكتاب تقديم قراءة تنصف الثورة وتبين أسباب "انحراف"ها ، هنا وهناك، أي تغير خططها وردود افعالها ووسائلها ، وذلك في أحد منعطفاتها الأكثر حساسية وخطرا، وفي مواجهة رواية خصوم الثورة ، ومشوهي صورتها ، وناكري قضيتها العادلة . ومن ضمن هذه القراءة تحليل سلوك بعض القادة الذين أدّوا أدوارا رئيسية ، في توجيه دفة الممارسة والتنظيم والتخطيط . ولا علاقة لتحليل أدوارهم بأي نقد لذاتهم كأفراد، او الحديث عن أي ذات سورية أو نمط من الذات الفردية السورية . هذا ليس من أهداف الكتاب ، ولا من عناوينه . ولو فعلت ذلك لخرجت عن موضوع الكتاب .

المقصود من مصطلح الذات هنا هو استعدادات شعب للتصرف كذات جمعية واحدة، أو إذا شئت الرابطة النوعية، المدنية والسياسية، التي تحول جمهورا مشتتا إلى قوة تملك الوعي والإرادة والشعور بوحدة مصيرها ومستقبلها المشترك ، وما يجعل من ملايين الأفراد أمة ويحولهم إلى فاعل "جمعي" يعمل مع أمم أخرى على مسرح التاريخ، ويحقق ما لا قدرة لفرد، أو أفراد، أو أحزاب او جمعيات، مهما عظم شأنه، أو شأنهم، تحقيقه: بناء الدول وخلق المفاجآت ، وانجاز التحولات الكبرى السياسية والاقتصادية والعلمية . وفي الرد بنجاح على هذه المهمة ، جعل المتعدد واحد ، التي عبر عنها الجمهور الثائر بشعار : واحد واحد واحد، ثلاثا، في بداية الثورة، تكمن عبقرية النخب وتبرز أيضا جدارة كل واحدة منها. وبالعكس في إخفاقها في هذا الرد تبرز درجة ضعفها وهزال تفكيرها وتنظيمها ووعيها. فالنخب هي التي تتحكم بموارد المجتمعات البشرية والمادية ، وتخطط لمستقبلها وتتحكم بتوظيفها واستثمارها . ومنها تولد القيادة التي تصوغ الرؤى والغايات والخطط للجماعة المتفاعلة معها وبمقدار هذا التفاعل. وفي هذا الميدان ، تتفاضل النخب وتتمايز . فليس لمن يمارس القيادة من منطق النخبة/العلقة التي تعيش على مص دماء جمهورها ، وإضعافه حتى الموت أو التشكيك بقدراته وأهليته، الصفات ذاتها التي تميز النخبة / الاجتماعية التي تدرب شعوبها وتهيؤها لتحقيق الانجازات الكبرى، كما يهيؤ السائس فرسه لنيل المركز الأول في السباق . وهنا بالضبط ينبغي البحث عن ( عطب الذات ) أو صلاحها.

ودعني استغل هذه المناسبة لأذكر من لم يتسن له حتى الآن رؤية الكتاب، بمادته ومسائله الرئيسية التي ليس لهذا "النق" هدف سوى إخفائها وصد الجمهور عن اكتشاف نقائص المعارضة واخطائها، والتي لا مهرب لنا من مراجعتها والنقاش فيها ، اذا اردنا الخروج من الكارثة . المسألة الأولى هي المسألة التنظيمية التي لا نزال نعاني منها حتى اليوم، وهذه كانت مهمة (المجلس الوطني) الذي حاول جمع قوى المعارضة الحزبية والنشطاء وتوحيدها ، والذي كان فشلنا في الحفاظ عليه يعني تشتت قوانا وخسارتنا معركة ايجاد قيادة سياسية للثورة. والثانية مسألة الاستراتيجية التي تخبطنا فيها وراهنا لفترة على التدخل الدولي ، وتنازعنا حول طلبه أو عدم طلبه ، بعد انتقال النظام إلى خيار الحرب الشاملة . والثالثة مسألة الانتقال من السلمية إلى الثورة المسلحة ، وكيف جرى التسلح ، والمشاكل التي رافقته، وفوضى السلاح التي ولدت من عجزنا عن توحيد الفصائل وإخضاعها للقيادة السياسية، بل لقيادة عسكرية موحدة . والرابعة مسألة صعود الايديولوجيات الاسلاموية على مختلف اشكالها إلى واجهة الثورة الفكرية والاعلامية، مع تزايد الشعارات والتسميات الدينية، وانحسار الشعارات والهتافات الديمقراطية التي سيطرت على المرحلة الأولى ، وما نجم عن ذلك من انقلاب الموقف الدولي على الثورة، والنظر إليها كحرب أهلية طائفية او مذهبية لا تستحق تضامن المجتمع الدولي معها ، ولا دعمها . والخامسة إدارة العلاقات الخارجية، العربية والاقليمية والدولية، وكيف أدى تشتتنا ونزاعاتنا الداخلية إلى خسارتنا رصيدنا السياسي ، وانحسار التعاطف الدولي عن قضيتنا. والسادسة كيف نفهم اسباب تشتتنا وانقساماتنا وما أظهرناه من عجز عن العمل المتسق والمتناغم مقابل الميل الواسع للانفراد بالقيادة، والفصائلية ، والشللية والمحاصصة ، وغيرها من النقائص التي اعتورت ممارستنا الجماعية . باختصار إن ما سعى إليه الكتاب هو البحث في دينامية العوامل الذاتية والموضوعية ، وتفاعلاتها التي أدت إلى ما سميته الكارثة . ولذلك قلت في مناسبات عديدة وفي الكتاب أيضا إن موضوع الكتاب الرئيسي هو (الكارثة السورية) وليس الثورة التي تستحق كتابا آخر يليق بما قدمه السوريون من تضحيات اسطورية .

الى اللقاء في الحلقة الثانية...

الوسوم