بيروت | Clouds 28.7 c

دلالات صور البركان الأمريكي المنفجر / بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 3 حزيران 2020

تفاجأ العالم بسرعة توسع دائرة الإضطرابات العنيفة في أرجاء الولايات المتحدة الأمريكية، وبثت مختلف وكالات الأنباء ومحطات التلفزة الأمريكية والعالمية صوراً صادمة عن المشاركة الواسعة غير المتوقعة في التظاهرات الغاضبة في مختلف المدن في العديد من الولايات الأمريكية من جهة والتصعيد المتسارع في أسلوب المواجهة من جانب المتظاهرين تجاه قوات البوليس والمقرات والمؤسسات الحكومية وكذلك أثار الإستغراب الشديد الأسلوب الفج والأداء المتعجرف في التعاطي مع الأحداث من جانب الرئيس دونالد ترامب واختصاره الأزمة الكبيرة التي تكاد تعمّ أمريكا كلها في ضعف وسوء إدارة بعض حكام الولايات وخصوصاً حاكم ولاية مينيسوتا تيم وولز المنتمي إلى الحزب الديمقراطي وعمدة ولاية مدينة مينيوبوليس جاكوب فريي وهي المدينة التي انطلقت منها شرارة التظاهرات الغاضبة احتجاجاً على جريمة قتل الأمريكي الأسود على يد الشرطي الأبيض، ولقد قام الرئيس ترامب بتحريض حكام الولايات في لقاء عبر الفيديو على مواجهة المتظاهرين بالعنف الشديد واعتقالهم وسجنهم لمدة تصل إلى ١٠ سنوات واصفاً الحشود الشعبية بأقبح الأوصاف، وللتهرب من مسؤوليته حسب الدستور قام ترامب بتحميل مسؤولية الإضطرابات مؤخرا لمجموعة " الناركيين " التي يريد وصفها بالإرهابية، ولم ينسَ أركان الإدارة الأمريكية وخصوصاً مستشار الأمن القومي أن يتهموا أطرافاً خارجية بالضلوع في استمرار الإضطرابات وتوسع رقعتها وقاموا بتسمية إيران وروسيا والصين( إذ بلغت المدن المشاركة في الإعتراضات إلى حين كتابة المقال ١٤٠ مدينة ) وحمّلوا سلطات تلك الدول مسؤولية صب الزيت على النار والنفخ فيها لتسعيرها وتسليط الأضواء الكاشفة على التطورات في البلاد من جانب وسائل الإعلام فيها ما يعطي قوة في التحرك وتشجيعاً للمتظاهرين لمواصلة تحركهم وأملاً بالحصول على النتائج المطلوبة من قبلهم.

إن العالم قد واجه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية التدخل الوقح من جانب الولايات المتحدة في شؤون الدول الداخلية وإملاء توجهاتها على اغلب قادة الدول الكبيرة والصغيرة على السواء وفرض العقوبات المشددة وحتى الحصار الجوي والبحري والبري على من يتمرد على تعليماتها ويقاوم إرادتها ولا ينفذ رغباتها، وكم مرة أسقطت المخابرات الأمريكية CIA حكومات في دول ونصّبت أزلاماً لها مطيعين حكاماً وملوكاً وسلاطين وقامت بنهب ثروات تلك البلاد تحت غطاء أولئك العملاء حيث يتكفل الأزلام المحليين بإضفاء الشرعية على سرقة ثروات الشعبوب المسكينة  وحماية الناهبين والتصدي لاي اعتراض من المخلصين، وكم مرة قامت الولايات المتحدة مباشرة باحتلال بلاد في زماننا، وقامت بتنصيب جنرالات عسكريين وموظفين مدنيين من جانبها حاكمين على البلد وقام أولئك بفرض إرادة أسيادهم على البلاد والعباد واختاروا من يرضخون بالكامل لتعليمات الإدارة الأمريكية من أبناء تلك البلاد ممن عاشوا عقودا في أكناف دول الغرب وتشربوا ثقافة تلك البلاد وأعجبوا بمنهج الحياة لشعوبها وهم من قبل قد تحرروا من عقيدتهم ونبذوا ثقافتهم وتركوا تقاليد قومهم، فسلم المحتل القياد لمن يلبسون ثياب ذلك البلد لكنهم طيّعون بالكامل لهم لينوبوا عنهم، فيتوهم الشعب البسيط عندما يرى غياب صورة الجنرال أو الحاكم المفوض الأمريكي قد غاب عن الشاشات وحينما يجد ابن بلده قد جلس على كرسي الحكم وتقلد مواطنوهم المناصب ، فيعتقد أنه قد ربح معركته ضد المحتل الغاشم وحصل على الإستقلال الناجز ونال الحرية الكاملة، ويقيم الإحتفالات ابتهاجاً لجلاء المستعمر عن بلده وخروج المحتل من وطنه، لكن الحقيقة أن الأحتلال الفظّ الذي يستفز الشعوب قد استُبدل باحتلال مقنّع عبر عملاء لا يرون لأنفسهم إرادة ولا يملكون للإعتراض حقاً ولا لاتخاذ أي قرار حرية، والمحتل الأجنبي يظل في كل مناسبة يذكر عملاءه بأن بقاءهم في المنصب واستمرار حكمهم ونظامهم هو بفضل حماية أمريكا لهم وإذا فكّر أي حاكم يوماً في الخروج من بيت الطاعة الأمريكي فإنه لا يجد حتى فرصة الوصول إلى طائرته ليهرب بها وينجو بنفسه، وأن ذلك النظام مهما تجذرت عروقه في الأرض فإنه لا يدوم أكثر من أسبوع واحد إذا رفع الأمريكي غطاء الحماية عنه.

لكن هذا المستكبر المتعجرف المتفرعن قد أصبح في ساعات معدودة يتخبط في داخل كيانه ويواجه بركاناً كان خامداً لم يُحسب لثورته أي حساب، وفجأة بدأ هذا البركان العظيم بقذف حممه الحارقة في كل اتجاه، وكلما حاول دونالد ترامب السيطرة على الغاضبين زاد عددهم واشتدت وطأتهم، وكلما صعّد لهجة التهديد للمتظاهرين في الساحات كلما انضم مزيد من المدن إلى أخواتها، وكلما لوّح بالاستعانة أكثر  بقوة العسكر لكسر شوكة الجماهير المحتشدة كلما انقلب عناصر الشرطة والجيش على قياداتهم ورفضوا إطلاق النار على مواطنيهم فانضموا إلى صفوف الشعب، ولم تنفع الإجراءات العسكرية الواسعة ومنع التجول في عشرات المدن وإطلاق التهديدات في تهدئة الأوضاع المتأججة إذ لا أحد يمكنه السيطرة على الحشود الغاصبة ولا يقدر أحد أن يعيد المارد ذوالبشرة السوداء إلى القمقم لأن الشعور بالتمييز العنصري ضده في مختلف المجالات  قد ملأ صدره غيظاً على حكامه، وممارسة التحقير لشخصيته الإنسانية من قبل من يدّعي كذباً احترام حقوق الإنسان يجعله بركاناً يختزن في داخله حمماً لاهبة مستعدة للتفلت والثوران في أول فرصة، وبعد الإنفجار كيف يمكن لأحد أن يقول له: إهدأ، وهذا حال الذين جيء من إفريقيا بأجدادهم وهم أحرار قسراً، ثم استعبدوهم جسدياً بالأصفاد والأغلال وممارسة مختلف أنواع التعذيب، وروحياً من خلال إجبار أكثرهم على التخلي عن دينهم الإسلامي واعتناق دين ظاهره يدعو إلى المحبة بين الأمم على لسان الرهبان والقسيسين لكن المحتلين للأرض الجديدة يتسترون بالكتاب المقدس والتعاليم السماوية المسيحية لترويض المستعبَدين وتسهيل عمل أصحاب المزارع والمصانع الذين يحتاجون إلى أيدٍ عاملة رخيصة الثمن لا تكلف صاحب العمل إلاّ ما يلقيه إليها من فتات فضلات الطعام ويكون مكان إقامتها في الإسطبلات إلى جانب الحيوانات، ويكون من حق سيده ممارسة ما يحلو له من الظلم والعدوان من دون أي رادع، هذا بعدما نجح هذا المحتل الغاصب القضاء على عشرات الألوف بل الملايين من أصحاب الأرض الحقيقيين عبر الغزوات ونكث مئات العهود معهم والغدر بمن وثقوا بالتزاماتهم،  ثم مصادرة أملاكهم وأراضيهم والمنّة عليهم بأنه قد خُصصت له مساحة يمكنهم العيش فيها طبقاً لتقاليدهم وطقوسهم، وهذه المساحة تضيق يوماً بعد يوم بأمر القادم المحتل.

إن التطورات السياسية المتسارعة على الساحة الأمريكية بعد الأزمة الإقتصادية التي نتجت عن تفشي فيروس كورونا، وكذلك انهيار أسواق النفط عالمياً، واستمرار الأزمة المتفاقمة مع الصين اقتصادياً وسياسياً، والعجز عن مواجهة توسيع الرئيس الروسي بوتين رقعة مناطق تواجده حول العالم وتعميق حضوره في مختلف الدول، وفشل استراتيجية الضغط إلى أقصى الحدود مع الجمهورية الإسلامية في إيران في تحقيق أي هدف من أهدافها، بل تحولت العقوبات فرصة للأدمغة الإيرانية لكي تفعّل قدراتها العلمية الكامنة وتستعمل نبوغها التي لم تجد سبيلاً للإستفادة منها سابقاً، ويصنعوا بأيديهم ما يحتاجون إليه في مختلف المجالات، والتغلب على آثار كثير من العقوبات، وكذلك اقتراب موعد الإنتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في تشرين الثاني من هذا العام، كل هذا يضيق الخناق على دونالد ترامب الذي ما ترك لنفسه صديقاً جراء سوء أدائه، حيث يحتقر العاملين معه في إدارته فلا يمكنهم الإستمرار معه طويلاً، فإما هم يستقيلون أو هو يقيلهم بتغريدة وهو متمدد على فراش نومه، ولا حتى حفظ احترام حماته الجمهوريين، وهو منذ اليوم الأول لرئاسته في خصومة مع مختلف وسائل الإعلام الأمريكية المرئية والمكتوبة ذات التأثير الواسع في الرأي العام والتي صارت تعدد كل يوم الأكاذيب التي يقولها، وهو لا يتردد في توجيه الإهانات اللاذعة حتى للصحفيين المعتمدين لديه في البيت الأبيض إذا ما أحرجوه في سؤال، إضافة إلى سلوكه المشين مع  النساء  والتحرش بهن ومحاولاته المتكررة لتقديم الرشا بعشرات ملايين الدولارات لمن ترفع صوتها منهن لكي تغض النظر عن رفع الدعوى ضده في المحاكم؛ أمام جميع هذه الوقائع والأزمات المتزامنة وسوء تعاطي ترامب معها يصعب التنبّوء بعاقبة أمره وهل سيختاره المواطنون الأمريكيون مرة جديدة ليقضي على القليل مما تبقّى من شوكة الولايات المتحدة وصورتها الجميلة في الأذهان لدى عامة الناس في بلادنا، ويفضح حقيقة ما يؤكده أهل التحقيق والإختصاص من كذب كل الدعايات الأمريكية، والوحشية في التعامل مع بني البشر سواء كان من المواطنين الأمريكيين أو كانوا ممن هاجروا إليها في السنوات الأخيرة، أو كانوا ممن وقعوا أسرى ومعتقلين في قبضة الجنود الأمريكيين أثناء احتلال البلاد هنا وهناك، فلا فرق أبدا بين ما نشاهده هذه الأيام من صور عن وحشية التعامل مع جورج فلويد على يد الشرطي في مدينة مينيوبوليس أو ما يفعله زملاء الشرطي من دهس للمتظاهرين بسياراتهم، وأخيراً نزول أنصار ترامب " البلطجية " بأسلحتهم وأيضاً حَمَلة العصي الأوغاد لعرض عضلاتهم أمام المناهضين للتمييز العنصري ومهاجمة طلاب العدالة، ويترافق هذا مع ما يمارسه الحراس مع المعتقلين في زنازين السجون داخل أمريكا وما يقترفه الجنود من فظاعات في المعتقلات الرسمية والسرية خارج الولايات المتحدة حسب ما يتسرب من مشاهد تقشعر لها الأبدان، وتشمئز منه النفوس وتأباه الفطرة الإنسانية.

إن التطورات المتسارعة والصور التي تصلنا كل يوم من بلاد العم سام عن التحركات الشعبية وتعامل السلطات مع المتظاهرين تجعل حتى أشد المنبهرين بحضارة أمريكا والمتشربين لثقافتها حول العالم يتبرؤون منها وينأون بأنفسهم عنها كي لا تشملهم لعنات الأمم ولا تصيبهم سهام شعوب العالم، وكلما طال الوضع القائم في الولايات المتحدة كلما تكشفت أكثر حقيقة المستكبرين وزالت  الغشاوة عن اعين الجاهلين، ولعل هذا يكون بداية ليقظة المسلمين وانتباه الغافلين، فيعودوا إلى رشدهم ويستعيدوا أصالتهم ويصدقوا كلام ربهم سبحانه: ( من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً ) و قال: ( إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) صدق الله العلي العظيم.

السيد صادق الموسوي

الوسوم