بيروت | Clouds 28.7 c

العودة إلى عقلية نيسان ١٩٧٥/ بقلم السيد صادق الموسوي

العودة إلى عقلية نيسان ١٩٧٥

بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 20 نيسان 2020

 

مرت قبل أيام ذكرى بدء الحرب في لبنان التي سمّيت بـ " الحرب الأهلية " وكثر الحديث عنها من قبل مختلف الأطراف السياسية والدينية، فمنهم من طالب باخذ العبرة منها للحؤول دون العودة إليها، ومنهم من حنّ إلى حال ما قبل الحرب والعقلية التي أدّت إليها، ومنهم من مرّ على الذكرى مرور الكرام دونما اكتراث متوسلاً بالقول المأثور: أميتوا الباطل بإماتة ذكره.

إن السبب الأساسي لنشوب تلك الحرب كان المنطق العنصري  "ما لنا لنا وحدنا وما لكم لنا ولكم" المنطق العنصري الذي كان يُقال ويّعمل به في كافة القطاعات من القمة حتى القاعدة وطولاً وعرضاً، ولكون أصحاب تلك العقلية العنصرية أحسّوا بالتهديد لهيمنتهم في السبعينات من القرن الماضي فإنهم بادروا إلى شنّ حرب استباقية متذرعين بالتجاوزات الفلسطينية يوماً وخوفاً من تحول لبنان إلى دولة شيوعية تارة؛ ولعجزهم عن تنفيذ كامل خططهم ونيل مأربهم فإنهم نفذوا تقسيماً فعلياً في المناطق التي استطاعوا فرض سلطتهم عليها في العاصمة وجبل لبنان وأجزاء من المحافظات الأخرى، أما الجنوب الذي يغلب عليه الوجود " الشيعي " فإنهم للسيطرة عليها استقووا بالعدو الصهيوني فاحتل جزءاً من المنطقة بالتواطؤ مع ضباط وجنود من الجيش اللبناني المتشربين للعقلية العنصرية وإعطاء القياد بيد عميل من ضباط الجيش اللبناني وهو الرائد سعد حداد، وهو وجنوده ظلوا يتقاضون مرتباتهم من الدولة اللبنانية حتى آخر يوم.

وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران وتعاطف العالم الإسلامي وعموم المسلمين في لبنان معها استند زعماء الميليشيات العنصرية بذلك لتبرير تشبثهم بالحكم مدّعين أمام الغرب والدول العربية الرجعية أن غايتهم هي الحؤول دون ارتماء لبنان في الحضن الإيراني وإقامة " الجمهورية الإسلامية في لبنان "، علماً أن أولئك الزعماء كانت لهم من قبل أفضل العلاقات مع شاه إيران وكانت الزيارات المتبادلة مستمرة وتبادل الهدايا الثمينة قائمة، وحتى أن الشاه محمد رضا بهلوي أمدّ تلك الميليشيات العنصرية بالمال والسلاح أثناء فترة الحرب وحتى أيام قبل سقوطه في ١١/ شباط / ١٩٧٩ وذلك بذريعة مواجهة الشيوعية.

جاء الإجتياح الصهيوني للبنان عام ١٩٨٢ كتكملة لخطة فرض الهيمنة على ما تبقى من لبنان والذي عجزت الميليشيات بنفسها عن السيطرة عليها بسبب الوجود السوري ولأن سورية كانت لها علاقات حسنة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية الوليدة، واحتلت القوات الصهيونية العاصمة بيروت واكتسحت أكثر المناطق وهزمت الجيش السوري والمقاومة الفلسطينية شر هزيمة، واستُقبل المجرم شارون بحفاوة في بيت رئيس حزب الكتائب في بكفيا والتقط معه الحاضرون الصور التذكارية، وفي ظل الحراب الإسرائيلية اجتمع النواب في ثكنة عسكرية في الفياضية وانتخبوا رأس الميلشيات المارونية رئيساً للجمهورية اللبنانية، وكانت هذه الخطوة هي ذروة تحقق حلم أصحاب العقلية التي بدأت شنّ الحرب، وصارت العناصر المسلحة لـ " القوات اللبنانية " تصول وتجول في كافة المناطق متبخترة متحدية المسلمين مستأثرة بالمواد الغذائية الأساسية ومتحكمة بتوزيعها على المواطنين مقروناً بالإذلال.

وخرج الفلسطينيون تحت ظل الحراب الإسرائيلية محملين بالسفينة إلى اليونان لعدم قبول أية دولة عربية استضافتهم وارتُكب بحق المتأخرين منهم مجزرة جماعية في صبرا وشاتيلا، وانسحب الجيش السوري إلى البقاع وفوق رأس أرتال شاحناته وسياراته العلم الإسرائيلي، ولم يعُد للشرفاء في لبنان أمل في لبنان الحرّ، وصار كثيرون يهرولون مباركين الرئيس الجديد محاولين التكيف مع الواقع الجديد.

ثمّ اغتيال بشير الجميل في بيت الكتائب المركزي بانفجار ضخم مع عدد كبير من مساعديه، لكن الصهاينة سارعوا إلى تنصيب أخيه أمين رئيساً وقاموا بتسريع الخطى لربط الدولة اللبنانية كاملاً بالمحور الصهيوني- الأمريكي عير اتفاقية تم التوقيع عليها يوم ١٧ أيار من العام ١٩٨٣، وصادق مجلس النواب اللبناني فوراً عليها.

هنا تدخل العامل الإيراني المستجد بقوة وساند الشرفاء الذين لم يزالوا يملكون في نفوسهم روحية الإباء والذين أرادوا مقاومة الإحتلال الصهيوني لوطنهم وتحرير البلاد من السلطة التي تواطأت مع المختل المجرم، فكان تأسيس حزب الله في مدينة بعلبك من قبل عدد محدود من الشباب وثلة من علماء الدين في أجواء الإحباط واليأس من إمكان هزيمة التحالف الدولي ـ الصهيوني ـ العربي المساند للسلطة اللبنانية، لكن الصمود والمثابرة من جانب الغيارى والشرفاء من جهة واستمرار الدعم الإيراني بكل ما يلزم من جهة أخرى أربك الواقع المهيمن و " خربط " الحسابات وفتح كوّة صغيرة من الأمل في نفوس اللبنانيين، وأوقف شيئاً فشيئاً عملية إنبطاح الزعماء اللبنانيين دينيين وسياسيين ومن مختلف الطوائف أمام الصهاينة، وتوقفت جلسات شرب الشاي المشتركة بين الجيشين اللبناني والصهيوني في الثكنات العسكرية اللبنانية، وعلى الرغم من قصف البوارج الحربية الغربية والصهيونية وغارات الطائرات العسكرية المختلفة الجنسيات على أماكن تواجد وتجمع عناصرها استطاعت المقاومة من زيادة قدراتها وتوسعة رقعة انتشارها وضمّ أعداد من الشباب الغيارى إلى صفوفها، حتى تغيرت المعادلة واضطر المحتلون إلى التراجع خطوة وراء خطوة حتى عادوا إلى مناطق الإحتلال السابقة لاجتياح عام ٨٢.

بعد موت الرائد سعد حداد وجد الصهاينة ضابطاً أعلى رتبة في الجيش اللبناني ليتولى الكيان المصطنع في المنطقة وهو اللواء أنطوان لحد، ومع كل تراجع صهيوني شاهد الجميع الإحساس بالمرارة الشديدة لدى الحالمين السابقين باستكمال الهيمنة العنصرية على لبنان، وحاولت الدولة كل مرة التقليل من تأثير الهزائم الإسرائيلية على نفوس المتواطئين معها، لكن من دون جدوى.

واضطر مجلس النواب وحضرات النواب الذين صادقوا على إتفاقية الذل للإجتماع مجدداً وإلغائها تحت ضغط الواقع الجديد، واضطرب المحور الصهيوني ـ الأمريكي ـ العربي الرجعي، وبدأت المشاورات المكثفة لدراسة أسلوب جديد من أجل إيجاد خلل في الداخل اللبناني عبر إعطاء قليل من الإمتيازات السياسية للمسلمين الذين سيطروا على الأرض كلها تقريباً ليفرحوا بها عبر اتفاق الطائف وسلب بعض الصلاحيات من المسيحيين الذين لم يعد لهم دور فاعل في حينه أصلاً نتيجة هجراتهم الكثيفة وفقدهم للدعم الخارجي وتقاتل مختلف فئاتهم فيما بينهم، لكن ذلك لم يمنع قوى العمالة في الساحة اللبنانية من العمل الدؤوب لإعادة تجميع صفوفها وذلك باختراق مختلف الأوساط الدينية والسياسية الإسلامية الشريفة بهدف إفراغ الحالة المقاومة من ثقتها بنفسها وبثّ روح الضعف بين شبابها الغيارى، فانطلقت أصوات تطالب بالعودة إلى الوحدة مع أصحاب العقلية العنصرية السابقة بعد تغيير بعض من قادتهم جلودهم التي اعتادوا أن يبدلوها كل يوم وتنميق خطاباتهم ظاهرياً بما يتوافق والمرحلة مع التمسك بعنصريتهم المتأصلة في النفوس والتي شربها البعض منهم مع الحليب؛ وتبدلت الشعارات لدى الأطراف وعُقدت اجتماعات مع جزار صبرا وشاتيلا وغيره وجرى التطبيع بين الشرفاء والعملاء بحجة ضرورات المصلحة  وكانت الذروة التمسك بمن يعرف الحميع سوابقه ليأتى رئيساً على البلاد والقيام بتسويقه وتلميع صورته وتبرئة ساحته لدى عموم الشعب اللبناني من ماضيه، ويتم التحضير مع الأسف حالياً لتبني صهره الأكثر تعصباً وعنصرية ليكون خليفة له بعد انتهاء ولايته.

ومع انتهاء فترة أمين الجميل وتعطل جلسة انتخاب رئيس جديد للجمهورية بسبب إصرار ميشال عون قائد الجيش في حينه على انتخابه قام الجميل بتعيينه رئيساً للحكومة العسكرية خلافاً للدستور وانطلاقاً من العقلية العنصرية نفسها، فانتقل لبنان إلى حالة أكثر انقساماً من ذي قبل وتمزقت أوصاله كلياً وتشتّتت المؤسسات الحكومية والخدمية بين الحكومة المعينة من قبل أمين الجميل والتي قدم نصف أعضائها استقالاتهم فور إعلانها وبين حكومة سليم الحص المستقيلة قبلاً، وبدأ القصف العنيف من المناطق الشرقية لأحياء بيروت الغربية والضاحية الجنوبية في محاولة لفرض الأمر الواقع، وتواجهت ألوية الجيش اللبناني مع بعضها بقيادتين متعارضتين في مناطق الجبل وغيرها، وتقاتل الحلفاء في " المناطق الشرقية " على السيطرة والنفوذ وشُنّت حروب الإلغاء، وأخيراً انتهى الأمر في صبيحة يوم ١٣ تشرين الأول عام ١٩٩٠ بقصف الطائرات العسكرية السورية لقصر بعبدا واقتحام مجموعات مسلحة تابعة لإيلي حبيقة من جهة كنيسة مارمخايل وقوات تابعة لحزب الله من جهة الحدث متجهين نحو القصر الجمهوري، ومن ثم هروب ميشال عون إلى السفارة الفرنسية القريبة.

إن تتالي الأحداث وتلاحق التطورات فرضت على أصحاب الإمتيازات الإنحناء أمام العاصفة لفترة وجيزة انتظاراً لظروف مواتية لها كي تستعيد قوتها وتعيد هيمنتها على لبنان عبر سياسة الخطوة خطوة، وهذا ما رأيناه منذ اتفاق الطائف الذي سمّاه البطريرك صفير " أهون الشرور " و " أدنى من المطلوب " فيما اعتبر ميشال عون ما جرى في الطائف " جريمة لا تُغتفر "، وتمّ انتخاب النائب رينه معوض من قبل زملائه رئيساً للجمهورية بُعيد التصديق على الدستور الجديد في مدينة الطائف من قبل النواب الممددين لأنفسهم، ثم أتوا بهؤلاء محمولين على طائرة هبطت في مطار قليعات العسكري في شمال لبنان، وخلال ساعات قليلة، ثم عادت الطائرة بمن أتت بهم حيث لا مكان لهم في لبنان، وقبل تسلمه مهامه تمّ اغتيال معوض في بيروت الغربية التي ظن أنها منطقة آمنة تحت السلطة السورية، واستدعي النواب أنفسهم هذه المرة إلى فندق في شتوره في منطقة البقاع وانتخبوا زميلاً آخر لهم هو إلياس الهراوي رئيساً، واستقر الرئيس هذا في ثكنة عسكرية في مدينة أبلح ـ البقاع والتي تقع تحت السيطرة الكاملة للجيش السوري، ثم انتقل إلى بيروت الغربية في مقر تمت تهيئته من قبل رفيق الحريري، وتشكلت أول حكومة برئاسة عمر كرامي شقيق الرئيس رشيد كرامي الذي تم اغتياله في العام ١٩٨٧، وتمّ تعيين النواب المقرر زيادتهم في اتفاق الطائف، وصار همّ القائمين على التسوية إشراك الجميع في النظام الجديد، فسحب المعترضون على اتفاق الطائف ملاحظاتهم وقرروا الإندماج خطوة خطوة في الكيان اللبناني حتى صار الدفاع عن هذا النظام اليوم من الواجبات الوطنية والدينية عندهم.

اليوم وبعد كل التطورات يقف لبنان مرة أخرى أمام حالة تكاد تشيه ما عاشه البلد قبل نيسان من العام ١٩٧٥، حيث يشعر أصحاب العقلية العنصرية نفسها أن قدرتهم على التحكم بالسلطة قد ضعفت كثيراً على الرغم من التسميات المغايرة للواقع وعلى الرغم من المحاولات الحثيثة لإضفاء طابع وطني على العهد الحالي ورفده بعناصر الدعم وحشد التأييد له، لكن سلوكه وتصرفات المقربين منه وخاصة صهره جبران باسيل يعيدان إلى الذاكرة العقلية العنصرية البغيضة التي كانت تسيطر على الزعماء المسيحيين قبل العام ١٩٧٥، وإن شعارات " لبنان القوي " و " الجمهورية القوية " و " الرئيس القوي " كلها تصبّ في إتجاه إحياء النفسية الإستعلائية على باقي الطوائف وشحن نفوس فئة من اللبنانيين على الفئات الأخرى، وهذا ما حدث بالضبط قبل اندلاع " الحرب الأهلية " السيئة الذكر.

إن الذين عاشوا تلك الفترة وذاقوا ويلاتها وفقدوا أعزة لهم فيها، والذين لا يزالون يملكون الذاكرة، والذين يملكون حرية التفكير والقرار يعرفون أن تلك الحرب لم تندلع بين ليلة وضحاها من دون التحضير المسبق لها، لأن الشرارة لا تفعل شيئاً إذا لم يكن الصاعق سليماً ومادة التفجير جاهزة واليد التي تطلق الشرارة قد تسلمت الأمر من الرأس صاحب القرار؛ وهذه المقدمات والتحضيرات أخذت سنوات قبل موعد التفجير في ١٣ نيسان من العام ١٩٧٥، وفي تلك الفترة غفل أكثر الناس عن تلك التحضيرات حتى انفجرت الحرب بذريعة " البوسطة " وتبعها الخطف والقتل على الهوية والتصفيات والمذابح الجماعية والمجازر الوحشية التي يندى لها الجبين.

لذلك يجب التنبه اليوم وأخذ العبرة من الماضي وتفويت الفرصة على العنصريين الذين يحاولون إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ليتحكموا بالرقاب من جديد، ويمارسوا الهيمنة على العباد مجدداً، والإستئثار بمقدرات البلاد مرة أخرى، وهم كما استمدوا الدعم من سورية في بعض مراحل تلك الحرب حتى قال أحد زعمائهم: " لولا الأسد لطلقنا العروبة ثلاثاً "، ثم تواطؤوا مع الصهاينة ضد السوريين، وهم اليوم لا يأبهون بالإستقواء بأية دولة أو جهة أو حزب يؤمّن لهم الوصول إلى أهدافهم، وهم كما انقلبوا على الأطراف الذين ساندوهم فإنهم هم أنفسهم والنفسية هي نفسها، والعقلية العنصرية تبرر لهم التقلبات وتجيز لهم الغدر بالتحالفات، ولا يهمهم بمن يلجأون للوصول إلى الأهداف، ولا يضيرهم الإستعانه بالشيطان لدرك الغايات، وهم أكدوا مراراً هذه الحقيقة بالعبارات نفسها أو ما يشابهها.

فالحذر الحذر من الغفلة عن كيد الكائدين لان " المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين "

السيد صادق الموسوي

الوسوم