بيروت | Clouds 28.7 c

مثلُ القائمِ على حدود الله والواقعِ فيها/ بقلم الشيخ أسامة السيد

مثلُ القائمِ على حدود الله والواقعِ فيها

بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 3 نيسان 2020

 

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى: {واتَّقوا فتنةً لا تُصيبَنَّ الذين ظَلموا منكم خاصةً واعلموا أن الله شديد العقاب} سورة الأنفال.

وعن النعمان بن بشيرٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثَلُ القائمِ على حدود الله والواقعِ فيها كمَثل قومٍ استهموا على سفينةٍ فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها فكان الذين في أسفلها إذا استقَوْا من الماء مَرُّوا على من فَوقهم فقالوا: لو أنَّا خَرَقنا في نصيبنَا خَرْقًا ولم نؤذِ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هَلَكُوا جميعًا وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جميعًا" رواه البخاري.

لقد دعَانا الشرع الكريم إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورفع الظلم ونشر العدل ومناصرة الهدى وقمع الضلال في حدود الاستطاعة، لأن السكوت عند حدوث الفتن يؤدي إلى زيادة الشر وتفشِّي الموبقات فيجد إبليس أثناء ذلك مرتعًا واسعًا لبثِّ سمومه بين الناس، وإذا ما شبَّت عندئذٍ نار الفتنة أكلت الأخضر واليابس وطال شررُها الصالحَ والطَّالحَ واتسع بعد ذلك الخَرق على الرَّاقع فلا يكاد يرقع جانبًا إلا وينفتق جانبٌ آخر، ويتخبَّط المجتمع بمآسٍ كبرى يصعُب الخروج منها ولربما طالت تبعاتها عدة أجيالٍ، وقد جاء في "تفسير القرطبي" في الآية أعلاه عن ابن عبَّاسٍ قال: "أمر الله المؤمنين ألّا يُقروا المنكر بين أظهُرهم فيعُمَّهم العذاب". وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مثلًا عظيمًا جديرٌ بنا أن نتأمل معناه ونقف على مدلوله.

المثل البليغ

وقوله صلى الله عليه وسلم "مثل القائم على حدود الله" أي الثابت على التمسُّك بما أمره الله به المؤدي للواجبات المجتنب للمحرمات الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، وقوله "الواقع فيها" أي التارك للمعروف المرتكب للمنكر، فبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مثلهما "كمثل قومٍ استهموا" أي اقترعوا على سفينةٍ ليأخذ كلٌ منهم سهمًا أي نصيبًا من السفينة وذلك لاشتراكهم فيها إمَّا بملكٍ أو إجارةٍ، "فأصاب بعضهم أعلاها" لخروج سهمه بالقرعة "وبعضهم أسفلها" لذلك أيضًا، "فكان الذين في أسفلها إذا استَقَوا من الماء" حيث لا بدَّ لهم من ذلك "مرُّوا على من فوقهم" فصعدوا لأعلى السفينة ليستقوا الماء، ولما كان ممرهم على من فوقهم تأذوا بهم إذ ربما أقلقوهم في وقت راحتهم أو أصابوهم بشىء من رشاش الماء أو غير ذلك، "فقالوا" حين رأى أهلُ السُّفل تأذي أهل العلو بهم "لو أنَّا خَرَقنا في نصيبنا من السفينة خَرقًا" نصل به إلى الماء "ولم نؤذ" بمرورنا "من فوقنا"، ولم يدر هؤلاء أن هذا الخَرق الصغير سيؤدي إن تُرك إلى هلاك الجميع، "فإن يتركوهم وما أرادوا هَلَكوا جميعًا" بدخول الماء إلى السفينة وتغريقها و"إن أخذوا على أيديهم" بأن منعوهم من ذلك "نَجَوْا ونَجَوْا جميعًا".

وقد تضمَّن هذا الحديث الشريف ثلاثة تشبيهاتٍ:

التشبيه الأول: شُبَّهت فيه أحكام الشريعة الغرَّاء في حفظها لسلامة المجتمع وأمنه وطمأنينته بالسفينة التي تقطع بركَّابها البحر لتوصلهم إلى بر الأمان إذا أحسنوا قيادتها، فكذلك الشريعة السَّمحة يخوض القائمون على حدودها الحافظون لها معتركَ الحياة ويجتازون عقباتها وهم في أمنٍ من الأخطار ومنجاةٍ من العثرات، ومصداق هذا في كتاب الله قوله عزَّ وجل في سورة الإسراء:{إن هذا القرءان يهدي للتي هي أقوم ويُبشّرُ المؤمنين الذين يعملون الصَّالحات أن لهم أجرًا كبيرا} فالتزام ما أمر الله به في القرآن الكريم يهدي إلى الخصال التي هي أحسن. قال ابن الجوزي في "زاد المسير": "قال المفسرون: وهي توحيد الله والإيمان به وبرسله والعمل بطاعته ويُبشر المؤمنين الذين يعملون الصَّالحات "أن لهم" أي بأن لهم أجرًا وهو الجنة" ولا شك أن من كان كامل الطاعة لله كانت عاقبته الأمن والاطمئنان.

التشبيه الثاني: تشبيه القائمين على حدود الله بمن يركبون أعلى السفينة وفي ذلك إشارةٌ إلى علو مراتبهم وعظيم مكانتهم كما أن الراكبين في أعلى السفينة لهم العلوُّ الحسيُّ والمكان الرفيع، والمراد بهم الذين يُحلِّون الحلال فيفعلونه معتقدين إباحته ويحرِّمون الحرام أي يجتنبونه طاعةً لله لاعتقادهم أن الله هو الآمر المطلق وهو الناهي المطلق، فيأمر سبحانه بما يشاء وينهى عمَّا يشاء ويُحلُّ ما يشاء ويحرِّم ما يشاء، وفوق ذلك هم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وهؤلاء لهم الدرجة الرفيعة والمكان العالي. قال تعالى:{وجوهٌ يومئذٍ ناعمة لسعيها راضية في جنَّةٍ عالية} سورة الغاشية. قال ابن عطية في "المحرر الوجيز": "والمعنى لثواب سعيها والتنعيم عليه، ووصف الجنة بالعلو وذلك يصح من جهة المسافة والمكان ومن جهة المكانة والمنزلة أيضًا".

التشبيه الثالث: تشبيه الواقعين في حدود الله أي الذين يقعون فيما حرَّم الله ولا يقفون عند حدِّ الشرع بمن أصابوا أسفل السفينة، وفيه إشارةٌ إلى انحطاطهم بهذه الأفعال. قال الله تعالى: {تلك حدود الله فلا تَعتَدوها ومن يتعدَّ حدود الله فأولئك هم الظالمون} سورة البقرة. قال الطبري في "تفسيره": "فلا تعتدوها يقول: فلا تتجاوزوا ما أحللته لكم إلى ما حرَّمته عليكم، وما أمرتكم به إلى ما نهيتكم عنه، ولا طاعتي إلى معصيتي، فإن من تعدَّى ذلك يعني من تخطَّاه وتجاوزه إلى ما حرَّمت عليه أو نهيته فإنه هو الظالم، وهو الذي فعل ما ليس له ووضع الشىء في غير موضعه".

ويُستفاد من الحديث على الجملة أهميةُ العمل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدمُ إقرار الظالم والفاسد على ظلمه وفساده وإلا هلك المجتمع وأصابهم العذاب والبلاء والنكبات. هذا وكثيرٌ مما نعانيه اليوم من مآسٍ إنما سببه في الحقيقة المداهنة والغَش والخداع وترك إحقاق الحق وإبطال الباطل، فعن أبي بكرٍ الصديق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه (أي يمنعوه عن ظلمه) أوشك أن يَعمَّهم الله بعقاب" فالحذر الحذر.

والحمد لله أولًا وآخرا.      

الوسوم