بيروت | Clouds 28.7 c

آياتٌ لقومٍ يعقلون / بقلم الشيخ أسامة السيد

آياتٌ لقومٍ يعقلون

بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 23 آذار 2020

 

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {وإلهكم إلهٌ واحدٌ لا إله إلا هو الرَّحمن الرحيم إن في خَلقِ السَّموات والأرض واختلافِ الليل والنَّهار والفُلك التي تجري في البحر بما ينفعُ النَّاس وما أنزل الله من السَّماء من ماءٍ فأحيا به الأرض بعد موتها وبثَّ فيها من كل دآبَّةٍ وتصريفِ الرِّياح والسَّحاب المسخَّر بين السَّماء والأرض لآياتٍ لقومٍ يَعقلون} سورة البقرة.

وروى البيهقي عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ قال: "تفكَّروا في كل شىء ولا تفكَّروا في ذات الله".

لقد أبرز الله تعالى كلَّ شىءٍ من العدم إلى الوجود فلا خالق سواه ولا يستحق أن يُعبد غيره، وقد أُمرنا بالتَّفكر في مخلوقات الله ونُهينا عن التَّفكُّر في ذات الله لأن الله لا مثيل له، فالتَّفكُّر في خلق الله يُقوي اليقين فيوصل إلى نتيجةٍ صحيحة، وهذا التَّفكر في حقيقة الأمر إنما هو عبادةٌ لله، وقد كان كثيرٌ من الصَّالحين يميلون إلى العزلة والخلوة فينقطعون عن ملذَّات الدنيا ويشتغلون بالعبادة والتَّفكر فيما خلق الله تعالى، وكثيرًا ما جاء في القرآن الكريم الحضُّ على التفكر والاعتبار فنقرأ مرةً {إن في ذلك لآيات لقومٍ يتفكرون} سورة الرعد، ومرةً {فاعتبروا يا أولي الأبصار} سورة الحشر، ومرةً {وفي أنفسكم أفلا تُبصرون} سورة الذَّاريات إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدَّالة على عظمة التَّفكر فيما صنع الله القادر على كل شىء.

من دلائل التوحيد

وقد ردَّ الله تعالى على المشركين في الآيتين المذكورتين مطلع المقال وبيَّن من دلائل التوحيد ما يُقرُّ له العقل السليم ويتعرَّف به على الحق فيشهد بصحة ما جاء به الأنبياء عليهم السلام، وحسبنا أن نتأمل في معنى الآيتين المذكورتين فإن فيهما عبرةً للعاقل وتذكيرًا للغافل ومقنعًا للمنصف.    

قال القرطبي في "تفسيره":"قال عطاء: لما نزلت "وإلهكم إلهٌ واحد" قالت كفَّار قريشٍ: "كيف يسع الناسَ إلهٌ واحد فنزلت "إن في خلق السموات والأرض" الآية.

والمعنى أن عقول كفار قريشٍ السخيفة لم تقبل أن يكون لهذا العالم الواسع مدبِّرٌ واحد وظنوا ذلك بعيدًا فبيَّن لهم الله تعالى دلائل التوحيد في الآية التي بعدها، ففي خلقِ السموات السَّبع وارتفاعِها ارتفاعًا مديدًا جدًا بغير عَمدٍ مع ملاحظة أنها أجسامٌ صُلبةٌ متينة، وفي بَسْطِ الأرض وجعْلِها مهيَّئةً للانتفاع بها والسعي في بقاعها فيما يحتاج الناس، وجعلِ منافع السماء متصلةً بمنافع الأرض فتُعرف جهات الأرض بالكواكب وتنضج الثمار بالشمس وينبت المأكول وتتفجَّر الينابيع بالأمطار كل ذلك دلالةٌ على أن خالق كل هذا إله واحدٌ وإلا لما انتظم ذلك. وفي اختلاف الليل والنهار في اللون والطول والقِصر وتعاقبهما في الذهاب والمجيء مع اختلاف أحوال الناس في أثناء ذلك فتراهم يسكنون في الليل وينتشرون في النهار يبتغون من رزق الله ويأتي الليل على النهار فيُذهبه حتى لا يبقى فيه من أثر النهار شىءٌ وكذلك يكون إذا غلب النهار على الليل برهانٌ على صحة الإنشاء بعد الموت وذهاب أثر الميت، بل وفيه دلالةٌ على حدوث العالم إذ كان تغيرهما وزوالهما مرةً بعد مرةٍ دليلا على أنه لا بد لهما من مخصصٍ خصَّهما بصفةٍ دون أخرى. والعالم كله متغيرٌ فلا بد له من مُغيِّرٍ يخُصُّه بحالٍ دون آخر، والتَّغيرُ أقوى أدلة الحدوث.

وفي الفُلك وهي السفينة التي تجري وسط البحر العظيم على وجه الماء وهي مُثقلةٌ فلا ترسُب تحته بل تعلوه مُحمَّلةً بالذي ينفع الناس من متاعٍ وحاجاتٍ دليلٌ على أن أعمال العباد بخلق الله، لأن الفُلك قبل أن تُنحت وتُصنع لا تُسمى فُلكًا إنما هي خشبٌ وبعد أن تصنعها أيدي الناس تُسمى فُلكًا ومع هذا فقد أضاف الله تعالى في الآية الخَلقَ إليه فدلَّ على أن أعمالهم مخلوقةٌ لله.

وفيما أنزل الله من السماء من ماءٍ طَهُور فكان غيثًا للأرض بعد يَبَسِها وجدبها فإن الأرض إذا أجدبت ماتت وإذا أخصبت فقد حييت فأحيا الله بالمطر الأرض وكذلك يحيي الموتى، وبثَّ أي فرَّق فيها من كل دابةٍ لأن الدَّواب تعيش بالخَصب، في كل ذلك دلائل وعبر عظيمة في أشكالها وصفاتها وأحوالها وانتقالاتها ومنافعها ومضارِّها وعجائبها من البعوضة فما كان أكبر منها إلى البهائم العظيمة والوحوش الكاسرة.

وكذلك فيما أوجد الله سبحانه في البحر من غرائب ثم في تصريف الرياح أي تقليبها في مهابِّها جنوبًا وشمالًا وفي أحوالها حارَّةً وباردةً وعاصفةً وليِّنةً تارةً بالرحمةِ وطورًا بالعذاب، والرياح جسمٌ لطيفٌ غير مرئي، وفيما جعل الله فيها من قوةٍ فتقلع الأشجار وتهدم الديار وتُهلك من شاء الله له الهلاك وتسوق السحاب المسخَّر، وتسخيره بعثه من مكانٍ إلى آخر وقيل هو ثُبوته بين السماء والأرض بلا شىءٍ يُمسكه فقد جُعل السحاب مسخَّرًا باعتبار إمساكه الماء، إذ الماء ثقيلٌ فكان بقاؤه في جو الهواء على خلاف ما طُبع عليه فسخَّر الله السحاب يحمله، كل ذلك آياتٌ باهراتٌ.

تبارك الله الواحد

ومعنى كلمة الآية العلامة والدليل وإنما جَمع آيات لأن في كل واحدٍ مما ذُكر من هذه الأنواع آيات كثيرة تدل على أن لها مدبرًا مُختارًا قادرًا لقومٍ يعتبرون فينظرون بصفاء عقولهم ويتفكّرون بقلوبهم فيعلمون أن لهذه الأشياء خالقًا واحدًا، إذ لو كان تدبير ذلك من عند اثنين مختارين لم يخلو من اختلافهما، لأن المختار ليس مجبورًا على موافقة الآخر وإلا لكان عاجزًا ولا تصح الألوهية للعاجز. ويدل على هذا قول الله تعالى:{لو كان فيهما ءالهةٌ إلا الله لفسدتا} سورة الأنبياء، أي لو كان مسيطرٌ عليهما ءالهةٌ إلا الله لفسدتا أي لما وجدتا فجرتا على نظام.

فاعجب بعد ذلك للجاحد كيف ينكر وجود الله ولا يتنبَّه لكل هذه البراهين وما أكثرها، ولعمري إن إنكار وجود الخالق أو نسبة الشريك إليه تضييعٌ لقيمة العقل. وما أروع ما قال أبو العتاهية:

فيا عجبًا كيف يُعصى الإله                               أم كيف يجحده الجاحدُ

وفي كل تحريكةٍ آيةٌ                                       وفي كل تسكينةٍ تُوجدُ

وفي كل شىءٍ له آيةٌ                                     تدُّل على أنه واحدُ

والحمد لله أولًا وآخرا.

                      

الوسوم