بيروت | Clouds 28.7 c

لماذا لا يتفاهم الحريري مع حزب الله (2) تجاوز أحكام محكمة الحريري واختصار ما تبقى من حكم عون/بقلم: حسن صبرا

لماذا لا يتفاهم الحريري مع حزب الله (2)

تجاوز أحكام محكمة الحريري واختصار ما تبقى من حكم عون

بقلم حسن صبرا

مجلة الشراع 14 شباط 2020 العدد 1938

 

كان نيلسون مانديلا يتناول طعام الغداء في أحد مطاعم جوهانسبورغ في جنوبي افريقيا، التي يرأسها، بعد ان ناضل عشرات السنين لتحريرها من التمييز العنصري، وأمضى 27 عاماً منها في السجن لقيادته حركة التحرير هذه.

كان معه حول طاولة الغداء عدد من أصدقائه.. لمح مانديلا شخصاً حول احدى طاولات المطعم، طلب من مرافقه ان يدعوه الى الغداء.. جاء هذا الشخص، وقف مانديلا لتحيته بإحترام والشخص لا يرفع رأسه، دعاه الرئيس للجلوس الى جانبه، امتثل هذا ورأسه نحو الأرض او صحون الطعام لا يكاد يأكل منه شيئاً.. بعد لحظة اعتذر الرجل بحياء شديد، وانسحب خارج المطعم.

سأله من معه: سيادة الرئيس من هو هذا الرجل الذي اهتممت به كثيراً، ودعوته الى تناول الطعام، وهو لم ينطق بأي حرف، وجلس مطأطىء الرأس، وبالكاد تناول شيئاً مما أمامه، وانسحب ولم يعد الى طاولته بل غادر المطعم؟

ابتسم نيلسون مانديلا وهو يقول لصحبه:

انه السجان الذي كان مشرفاً على زنزانتي في آخر مراحل سجني.

بهت رفاق مانديلا وهو يخبرهم حقيقة هذا الرجل، وراحوا يستنكرون تصرفه مع سجانه.. وهم غير مصدقين انه يمكن ان يكون سلوكه متسامحاً الى هذا الحد مع السجان..

نظر مانديلا الى وجه كل واحد من المرافقين وهو يكرر لهم حاجتهم لأن يستوعبوا فكرته التي أصبحت برنامج عمله في رئاسة الجمهورية التي كان البيض الأوروبيون المستعمرون يمثلون نحو ربع سكانها وحكموها بتمييز عنصري خلال نحو مئتي سنة.

قال مانديلا ان برنامجي الذي بدأت تنفيذه لحظة انتخابي للرئاسة هو المسامحة والعدالة. فلم يكن ممكناً ان أحكم في ظل البغضاء التي نشأت في بلادي لعشرات السنين بسبب التمييز العنصري.

المسامحة تكتمل بالعدالة، والعدالة يجب ان يبدأ تنفيذها بعد المسامحة.. انني اذا لم أسامح وأجعل المسامحة قانوناً وسلوكاً ونهجاً حاكماً يسود كل أرجاء المجتمع فستسود البغضاء وتصفيات الحسابات والثأر والعنف والدم.. وهذا كله يتناقض مع منطق بناء دولة جديدة يجب ان يشعر ابناؤها بأن أمراً جوهرياً قد حصل، وان تغييراً نحو الأحسن قد تم.

ولنا مع الملك المغربي الراحل الحسن الثاني نموذج مقابل.. فقد كانت المعارضة المغربية الممثلة تحديداً بالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وهو أقوى أحزاب المغرب على الاطلاق طيلة عهد العاهل الراحل.. تتهم أجهزة الملك بأنها وراء خطف الزعيم المغربي المعارض الأشهر المهدي بن بركة في باريس عام 1965 بالتواطؤ مع السلطات الفرنسية يومها وضد سياسة الرئيس الفرنسي الأهم في تاريخ فرنسا الحديث الجنرال شارل ديغول..

ثم اتهمت هذه المعارضة وزير داخلية العرش ادريس البصري بأنه وراء اغتيال أحد قادة الاتحاد الاشتراكي عمر بن جلون عام 1980.

كانت العلاقات في أسوأ مراحلها بين العرش والمعارضة ومع هذا انعقد في ت2/ نوفمبر 1980 أوسع مؤتمر للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الدار البيضاء، حضره نحو 10 آلاف عضو من الاتحاد، ووفود من كل البلاد العربية والأوروبية وأميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا.

غير ان الأهم في مرحلة تهيئة انتقال الحكم في المغرب من الملك الحسن الثاني الى نجله الأمير محمد هو الاتفاق الذي تم بين العاهل المغربي وأبرز شخصية في المعارضة المغربية عبدالرحمان اليوسفي القائم على اصلاحات نوعية في البلاد، وتشكيل مجلس استشاري لحقوق الانسان واطلاق سراح مساجين سياسيين.. وقد استبشرت المعارضة المغربية خيراً بأن وريث الحسن الثاني سيكون ذلك الشاب الجدي الدمث الاخلاق والمتواضع الذي يحمل أفكاراً جدية لإنقاذ البلاد ونقلها من مرحلة الى أخرى (وكانت البشرى في مكانها).

وبالفعل ما ان تسلم الامير محمد مقاليد الحكم وبات هو الملك محمد السادس، حتى عقد ما سمي بالانصاف والمصالحة أي انصاف كل من ظلم في المرحلة السابقة بتعويضه عما حصل معه مقابل المصالحة التي تسود حتى الآن أرجاء المغرب، وفيها نرى اليوسفي ضيفاً دائماً على العاهل المغربي في كل الاحتفالات الرسمية التي تجري في البلاد.

وتحت عنوان الانصاف والمصالحة يتقدم المغرب في كل المجالات، وتتداول القوى السياسية رئاسة الحكومة والوزراء على قاعدة ان صاحب الأغلبية في المجلس النيابي هو الذي يشكل الحكومة.. فكان هناك الاتحاد الاشتراكي لسنوات والآن جماعة الاخوان المسلمين، والتعايش قائم مع العرش ومليكه.

عذراً دولة الرئيس سعد الحريري،

عذراً سماحة السيد حسن نصرالله،

نحن لا نسقط أي حالة من جنوبي افريقيا او من المغرب حصلت قبل عقود على واقع الحال في لبنان، او على طبيعة العلاقات الصعبة، بل والمتفجرة أحياناً بين تيار المستقبل وحزب الله، فلا سعد الحريري هو نيلسون مانديلا، ولا حزب الله هو حزب التمييز العنصري، ولا يدعي الحريري انه الحسن الثاني، ولا منهج الاتحاد الاشتراكي هو منهج حزب الله.

انما هي نماذج حصلت أمامنا وعاصرناها لنقرأ فيها تجارب آخرين وصلت المسائل بينهم الى حدود اللاعودة في صدام العدل بالظلم، والخير بالشر.. والصراع على السلطة.. ثم وجد الجميع ان من الاستحالة استمرار الصراع بينها، حيث سادت مصلحة الوطن فوق كل المصالح..

والعبرة الآن هي في سيادة هذه المصالح وانظروا حال جنوبي افريقيا بعد مانديلا.. انظروا حال المغرب بعد الحسن الثاني.

تتطور جنوبي افريقيا اقتصادياً، اجتماعياً وسياسياً لتكون واحدة من بلدان افريقيا المتقدمة، ويتطور المغرب في كل المجالات ليكون من أكثر بلاد العرب استقراراً وسعياً نحو التطور في كل الحقول، بعد ان اعتمد نهج الملك الراحل الانصاف والمصالحة.. ولم يكن ممكناً للمصالحة ان تتم من دون الانصاف.

هل هذا ممكن في لبنان بين حزب الله والحريري؟

جمهور الحريري يتهم حزب الله بمسؤوليته عن اغتيال زعيمه الوطني الكبير رفيق الحريري، ولا يلغي هذا الاتهام الموجه لحزب الله اتهاماً أوضح لبشار الاسد بأنه المسؤول المباشر عن قتل الحريري، ووقائع اللقاءات التي نقلها الحريري للعالم كله عن سلوك بشار العدواني ضده وتهديده له مباشرة باتت معروفة.. لهذا العالم ومنه جمهور الحريري في لبنان وقسم كبير جداً من اللبنانيين.. ولا غرابة ان يحمّل القرار الظني في جريمة قتل الحريري قياديين في حزب الله مسؤولية اغتيال الحريري، ويصر الجمهور الأكبر من اللبنانيين على ان القاتل أو على الأقل المحرض على القتل هو بشار الاسد نفسه.. وفي خلفية أغلبية اللبنانيين السلوك الهمجي لضباط بشار تجاه لبنان وخلال احتلال آل الاسد له.. وكذلك سلوك ابن الاسد الوريث الهمجي ضد الشعب السوري المتمادي منذ تسع سنوات.

ولنسترجع معاً كلاماً قاله الرئيس سعد الحريري نفسه رداً على ما كان يتردد من اسقاطات ضد حزب الله في هذه الجريمة، من ان مسؤولية ارتكابها تقع فقط على الأفراد الذين نفذوها، وفي كلام أشد وضوحاً بأن المسؤولية لا تطال حزب الله، ولا تطال الشيعة بأي شكل من الأشكال..

ولنتذكر بأن تفاهماً ما سبق إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان يحصر نتائج التحقيقات حول الجريمة بأفراد محددين لينزع أية امكانية قانونية لتحميل أي جهة أخرى المسؤولية، حتى لو كان الحزب الذي ينتمي اليه هؤلاء الأفراد.

ولنستنتج جميعاً بأن تأخير اصدار أحكام المحكمة الخاصة بلبنان التي ستحمل المسؤولية لأفراد من حزب الله قتل أبرزهم مصطفى بدرالدين منذ سنوات في سورية مرتبط بحرص دولي تحديداً على الأوضاع في لبنان، التي تشهد انهيارات على كل المستويات منذ أكثر من ثلاث سنوات، دفعت اللبنانيين الى أوسع وأعمق انتفاضة ضد الحرامية منذ نشأة لبنان قبل مئة عام.. بدأت يوم 17- 10- 2019.

وهل هي مصادفة ان رجل الأمن الأهم في حزب الله عماد مغنية الذي يفهم من مكانته ان امراً بحجم التخلص من رفيق الحريري لا يمكن ان يتم من دون قرار منه (اذا استنتجنا بأن المحكمة الخاصة بلبنان ستتهم مجموعة حزب الله بذلك..) قتل في دمشق، وان مصطفى بدرالدين ايضاً قتل في دمشق، وان الآخرين في المجموعة وهم سليم عياش، سليم عنيسي وأسد صبرا قد يكونون من المقاتلين الذين أرسلهم حزب الله لمنع سقوط بشار الأسد الحتمي قبل عدوان مجرم الحرب فلاديمير بوتين العسكري على الشعب السوري بدءاً من 30- 9- 2015).

سعد الحريري هو الذي أخبرنا مساء يوم افتتاح المؤتمر العام الأول لتيار المستقبل تموز/ يوليو 2009 بأنه عند لقائه – ربما الأخير حتى الآن – مع أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله طلب من السيد نصرالله طي صفحة المواجهة بين الحزب وتيار المستقبل، أي بين الشيعة والسنة، بطي صفحة المحكمة نهائياً من خلال تسليم المجموعة التي يتهمها القرار الظني بقتل الحريري، وان السيد نصرالله كما أبلغنا الحريري – في تلك الأمسية التي استمرت معه بحضور مستشاره الاعلامي الصديق هاني حمود نحو ساعتين – قال له: ((شيخ سعد اذا كنت تتهم مجموعة في حزب الله بأنها هي التي قتلت الرئيس المظلوم.. وتعبير المظلوم هو مصطلح تعتمده ((الشراع)) فإن هذا يعني انك تتهمني أنا شخصياً بإرتكاب هذه الجريمة، لأن أي فعل يقدم عليه حزب الله، هو فعل صادر الأمر به مني شخصياً)). وطبعاً لم يكن ليخطر في بال الحريري ان يسقط تهمة كهذه على السيد نصرالله.

وما دمنا بصدد الحديث عن المحكمة الخاصة بلبنان فإنها كما نردد دائماً لن تصدر أحكامها من دون التأكد من ان هذه الأحكام لن تفعل فعل الدمار الشامل في لبنان، وهذا ما يجعل دولاً كبرى تشفق على لبنان وتدفع بشكل او بآخر الى تأخير اصدار أحكامها، مع التوكيد دائماً بأن اللحظة التي تصدر فيها المحكمة الخاصة بلبنان أحكامها متبنية القرار الظني الذي وجه الاتهام لأربعة – او خمسة – من حزب الله بإرتكاب جريمة قتل الحريري ستكون لحظة الفصل في المواجهة الشاملة بين ايران واميركا.

واذا كان قتل دونالد ترامب للواء قاسم سليماني قد دفع الأمور نحو تفجير جرى ضبطه بتعقل ايراني حتى الآن، فإن أحكام المحكمة الخاصة بلبنان لن تسمح بأي تعقل اميركي، خصوصاً في عهد ترامب الذي نجا من كل الاجراءات التي اعتمدها الحزب الديموقراطي الاميركي لعزله. وهو يجد نفسه الآن أقوى من أي مرحلة في فترة رئاسته الأولى.

وسعد رفيق الحريري لن يكون يوماً سبباً من أسباب تفجير الوطن وسيجد حتماً صيغة للتفاهم مع حزب الله لحقن دماء اللبنانيين، ولن يسمح لأحد ان يدفعه الى أي مواجهة لا مع حزب الله ولا مع أي جهة أخرى.. لا بل ان الوجه الآخر لسياسته الموروثة عن الوالد المظلوم هو في ايجاد صيغة للتعاون مع حزب الله لإخراج لبنان من حالة الانهيار التي يعيشها وقد بدأت حين انتخب ميشال عون رئيساً للجمهورية، وليبحث معه منذ الآن عن مرشح جديد لرئاسة الجمهورية من بين عقلاء كثيرين وأكفاء ونزيهين وأقوياء ولبنانيين انتماءً، وقناعة وتاريخاً.. فهل يتم التفاهم بين الرئيس سعد الحريري والسيد حسن نصرالله على تجاوز عقبتي المحكمة الخاصة بلبنان وما تبقى من فترة حكم عون، فالاثنان هما طرفا المحكمة المتناقضة وهما ايضاً يتحملان مسؤولية ترئيس عون.

ونحن نعتقد ان بداية وقف الانهيار تنطلق من هذا التلاقي بين الحزب والحريري.. وهذا هو الجهاد الأكبر.. والاثنان الحزب والتيار مسؤولان عنه.

حسن صبرا

 

?? لقراة الجزء الاول يرجى الضغط على الرابط التالي  ??

? ?? من هنا نبدأ/ لماذا لا يتفاهم الحريري مع حزب الله؟ بقلم حسن صبرا ???

الوسوم