بيروت | Clouds 28.7 c

حكاية الفئران والمختبرات / بقلم: السيد صادق الموسوي

حكاية الفئران والمختبرات

بقلم: السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 3 كانون الثاني 2019 العدد 1932

 

يدأب علماء الطب على اختبار الأدوية التي يكتشفونها لمعالجة مختلف الأمراض عند الإنسان على الفئران أولاً وذلك لقرب التركيبة الجينية بين الإنسان وهذا الحيوان، وإذا نجحت التجارب المختلفة على الفئران فإنهم في بعض الحالات يختبرون الدواء أيضاً على القردة لقربها أكثر من الفئران في التركيبة الجسدية مع الإنسان، وبعد ذلك يجربون الدواء على متبرعين من البشر ممن يعانون من المرض المعين ولكن يختارونهم من مناطق نائية ومن فئة من البؤساء الذين لا يعلمون المخاطر المحتملة للدواء المجرب فيهم، وبعد اجتياز كل تلك الإختبارات والتجارب والنجاح فيها يُسمح للدواء بالدخول الى الأسواق ووصفه للمرضى من قبل الأطباء.

وفي عالم الإختراعات العسكرية أيضاً يمارس أصحاب المصانع العسكرية القاعدة نفسها ولكن بطريقة أخرى وخبيثة، حيث يُشعلون حروباً هنا وهناك ويستعملون فيها الأسلحة الجديدة ويعرفون نقاط الضعف في تلك الأسلحة ومدى فاعليتها ولكن هذه المرة تبدأ الإختبارات على الإنسان أولاً وآخراً، فكم من الحروب بين الدول والشعوب نشبت بحجة الحرية والإستقلال والشعارات البراقة الأخرى والغاية الحقيقية الخافية على الناس والأهداف الواقعية للمحركين لها والداعمين للأطراف المتورطة فيها هي اختبار أحدث الأسلحة المصنوعة في هذه الدولة وتلك ورفع النواقص منها وتحسين أدائها بالميدان الحقيقي، وهذا الأمر مدوّن في كتب التاريخ القديم والحديث، حيث استُعمل ((المنجنيق)) أول مرة بقذف النبي إبراهيم عليه السلام في النار قبل عشرات القرون ومن بعده صارت له استعمالات في ميادين الحروب وانطلقت منه قاعدة القاذفات في المدفعيات والصواريخ، وفي أربعينيات القرن الماضي تمت تجربة مدى فاعلية القنبلة النووية من جانب الولايات المتحدة في مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين وأدى انفجارهما إلى مقتل مئات الآلاف من الأشخاص في ثوانٍ معدودة ولا تزال آثار تلك القنابل على الإنسان والبيئة في تلك المنطقة مستمرة، والأمثلة للإستناد إليها في هذا المجال كثيرة لا مجال للتوسع فيها.

وفي عالم السياسة، أيضاً هناك اختبارات على أرض الواقع ليرى اللاعبون الأساسيون الجالسون وراء الكواليس مدى نجاح أساليبهم في تمرير خطة أو تنفيذ مؤامرة أو إجراء سياسة، وميدان الإختبار هنا هو مصائر الشعوب حيث يكتسب أصحاب المخططات التجربة حقاً ولكن الثمن لها هو بؤس الشعوب وشقاء الأمم واستعمار الدول ودمار البلاد، وهذا ما نراه في أوطاننا وفي مختلف بلاد العالم باختلاف اللون في القشرة الخارجية للخطة أو المؤامرة، فانظروا من حولنا وفي عصرنا الحاضر كيف كذبت الولايات المتحدة على العالم في العام 2003 وادّعت وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق وشنّت هي والسائرون في فلكها بهذه الذريعة حرباً مدمرة وبأحدث الأسلحة حتى المحرمة منها دولياً، وبعد الإستغناء عن شخص صدام حسين والشعور بضرورة الحضور العسكري الأميركي المباشر في المنطقة الغنية بالنفط والغاز وفرض السيطرة عليها دونما وسيط، كانت الإتهامات جاهزة والملفات موجودة، فالذين زوّدوا صدام بالأسلحة الكيمياوية هم أدانوا استعماله لها، والذين وضعوا أقمارهم الإصطناعية كلها طوال فترة الحرب التي دامت 8 سنوات في خدمته وقدموا له أفضل وأوضح الصور للمواقع العسكرية والمدنية الإيرانية الحساسة وسخروا أجهزة استخباراتهم لتزويده بما يلزم من المعلومات من داخل إيران هم الذين انقلبوا عليه وطالبوا بالإطاحة به ومحاكمته، والذين وضعوا مرافئهم ومرافقهم وميزانياتهم السنوية تحت تصرفه من دول المنطقة استنجدوا بالولايات المتحدة ودول الغرب ووضعوا بلادهم تحت سلطة المستعمرين من أجل إسقاط نظام تحالفوا معه طيلة سنوات، وهذا المثال الذي أدرك وقوعه وشاهد يومياته الجيل الحاضر يجب أن يكفي المعتبِرين من الحكام والمسؤولين إن كانوا يعقلون.

لكن الله سبحانه يريد أن يأخذ الإنسان العبرة من تجارب الأمم الغابرة، ويدعو دوماً إلى النظر في آثار السابقين والتفكر في ما أصاب السالفين والتمعن في أسباب بؤسهم وشقائهم محذراً من تكرار التجربة مرة أخرى فتأتي النتيجة مكررة أيضاً، وقد ورد في القرآن الكريم ذكر مئات من النماذج سواء من خلال بيان القصص أو ذكر الأمثال أو سرد الأحداث ومآلات سلوك سبيل الصلاح والهدى وعواقب الإنزلاق في مهاوي الفساد والردى ((ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لمّا ظلموا وجاءتهم رُسُلهم بالبيّنات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين)).

وفي لبنان الذي يمرّ دائماً في اختبارات متكررة على أيدي زعماء من صناعة الآخرين وتابعين لتعليمات الدول المختلفة، ويدفع الشعب المسكين ثمن ذلك هجرة من الوطن مرة وذلاً في الوطن دائماً، وفي كل مرة يقول له المتاجرون به وبمصيره ((خلينا نجرّب))، وعندما يضع أحد تجارب الأمم الأخرى أمام اللبنانيين ويدعوهم لأخذ العبرة منها يقال له أن هناك فرقاً بين تلك الأمة وواقع لبنان ولا يمكن لنا الإستفادة من تلك التجربة، ولما يذكَّر الناس بالتجارب التي مرّ بها لبنان نفسه في السنوات الماضية والعقود السالفة يتهربون من الإستفادة منها بحجة تغيّر الظروف واختلاف الأزمان، وخلاصة الكلام أن المطلوب للشعب في لبنان من قبل المتاجرين به أن لا يستعمل فكره بتاتاً ولا يأخذ العبرة من نفسه ومن غيره أبداً، ليبقى الناس فيه كما فئران المختبرات أدوات رخيصة لإجراء اختبارات الآخرين في المنطقة عليه والتثبت من مدى نجاح خططهم ومخططاتهم في التعامل مع التحركات الشعبية في الساحات الأخرى وفي مواجهات انتفاضات مشابهة، وتبادل المعلومات والخبرات بين أجهزة الاستخبارات في الدول أمر رائج لا ينفيه أحد، فهم يقيمون المؤتمرات العلنية والسرية ويدرسون الأحداث هنا وهناك ويناقشون التطورات في مختلف الدول ويأخذون منها العِبَر والدروس ويستفيدون منها في أماكن أخرى وفي حق شعوب آخرين ولكنهم هم يكرّسون في أذهان عامة الشعب في بلداننا عدم جدوى التعمق في تاريخ الأمم والشعوب والتأسي بهم في سلوك طريق الحرية والعزة والسيادة، ليبقى الشعب غافلاً عما يُحاك ضده ومنقطعاً عن تجارب السابقين له فيسهل التلاعب به ويقبل بإجراء الإختبارات عليه مرات متعددة ويسكت عن الظلم الذي يلحق به ويرضى بمن يسلّطه المستعمرون عليه.

انظروا إلى الإنتفاضة في تونس والتي أعقبت إحراق محمد البوعزيزي نفسه والتي أدت إلى سقوط نظام قمعي عميق الجذور كيف تلاعبوا بها وغيّروا مسارها وحولوّها إلى وسيلة للتخلص ممن يناوئ المستعمرين أو لا يكون طيّعاً لهم من حكام المنطقة فيما تمّت السيطرة على التحركات الشعبية في الدول التي يخضع حكامها بالكامل للسلطة الإستكبارية، ولا أريد هنا ذكر المصاديق، وصار اليوم الإعتراض بحرق الجسد أمراً عبثاً لا يحرّك ضمير أحد ولا يثير نقمة شعب، بل يوجَّه اللوم للذي ضاقت به الدنيا وعصره الظلم وسحقه البؤس وفقد كل أمل بالحياة من شدة جور الحاكمين.

لقد تحرك الشعب في لبنان بعفوية، وشمل الحراك مختلف الطوائف، وسار الغاضبون من ناهبي أموالهم من كافة المناطق والمذاهب جنباً إلى جنب، ولم تعُد تميّز بين مسلم ومسيحي ولا بين سني وشيعي، وهذا ما يتفق عليه جميع المحللين على اختلاف توجهاتهم، لكن الخطوة الأولى في مواجهة نهضة المظلومين بدأت بالنأي عن المشاركة بدعوى وجود ((معلومات أكيدة)) عن ((مؤامرات)) تحاك من جانب السفارات الأجنبية، وبعد أيام قليلة جاء الإعتراف بخلوص نيات المشاركين في الإنتفاضة الشعبية لكن ((الأعداء)) يحاولون استغلال المطالب المحقة، وبعد فترة نصحوا المنتفضين بأن يقفوا إلى جانب الساحات والطرقات ولا يعرقلوا حركة الناس والمؤسسات حتى يتستر الناهبون وراء الناس العاديين وتسير العجلة دونما عرقلة وعليه تمرّ الأيام والشهور ويملّ المتظاهرون وينفضّ الجمع، ويرتاح بال الطبقة السياسية فيستأنفون النهب والسرقة، وبين الفينة والأخرى تمّ دسّ ((المتحمسين)) من جانب المتضررين ليقتحموا صفوف المنتفضين ويحرقوا خيام المعتصمين ويشتبكوا مع المتظاهرين، وبعد طرح أشخاص لاستمزاج المنتفضين وحرق أسماء كبالونات اختبار أخرجوا في ليلة ظلماء ومن حيث اتهموه قبل أيام بإدارة المؤامرات الخبيثة ومن قلب مؤسسة طالماً نسبوا إليها الوقوف وراء التحركات المشبوهة شخصاً لا يعرفه عامة الناس، وفي غضون ساعات معدودة حشدوا له الموالين لهم والمرتزقين بأموالهم والمسترزقين فصار المعروف في الجامعة الأميركية في بيروت بسوء السلوك رجل المرحلة، والشخص المستغل منصبه الوزاري في فترة قصيرة لأغراضه الشخصية تمّ تصويره أنه نظيف الكف، والذي لا جذور معروفة له ولأسرته في مجال الخدمة العامة، والذي لم يخدم يوماً الفقراء والمستضعفين من مواطني بلده بل عمل بقسوة لرفع الأقساط وابتزاز الطلاب الفقراء في الجامعة الأميركية على أنه المفضَل لرفع البؤس عن المحرومين، وسيجد هذا الرجل حتماً من على شاكلته من يعشقون الكراسي ويلهثون وراء المناصب والألقاب وينتظرون الفرصة ليلحقوا بركب الناهبين، وعندما يعترض أحد الحقائق مستنداً إلى تجارب سابقة ويعجزون عن التبرير يقولون: ' لنجرّب ((ولنعطِ فرصة ))، وكأن مصالح الشعب ومصائر الناس لعبة بيد المتاجرين بالحقوق والناهبين للثروات حتى تتمّ الإختبارات بهم متى يشاؤون وفي كل مناسبة ومن قبل كل طارئ على الساحة السياسية وعلى أيدي مراهقين يريدون وراثة آبائهم وهم لا يجيدون حتى تركيب جملة كلام يصرحون به، وآباؤهم كانوا من قبل أيضاً ورّاثاً دخلوا الساحة وتعلموا ممارسة السياسة بالتجارب والإختبارات التي مارسوها على من تسلموهم من آبائهم على أنهم ممتلكات تنتقل بالوراثة من الآباء إلى الأبناء ومنهم إلى الأحفاد، فكم من حروب طاحنة تورط فيها السياسيون الحاليون في مراحل مختلفة حتى بنى كلُ منهم زعامته على جثث آلاف من المغرر بهم والمخدوعين بالشعارات على اختلاف أنواعها وألوانها، ولما حان وقت تلاقي المصالح وتقاسم الغنائم بين الزعماء ذهبت الدماء التي أريقت من شباب متحمسين هباءً وانتهى دور الذين صدّقوا شعارات القادة وبذلوا مهجهم في سبيل تحقيق الأهداف النبيلة، ولم يعُد هناك مكان للمجاهدين بل يتمّ تقاسم الحصص بين المتزعمين، وينال بعض الفتات الزبانية والمبخّرين، و ((راحت)) على ((المعتّرين)).

ولأن الله سبحانه يقول: ((إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)) فإن استمرار انخداع الفقراء بالشعارات البرّاقة للمتاجرين بالمبادئ والمبدّلين كل يوم للمواقف، وعدم محاسبة أفراد كل مجموعة لزعيمها وقائدها، والسير ((عالعميانة)) وراء من باعوا أنفسهم لهذه الدولة أو تلك وقبضوا المال الكثير باسم الثورة والجهاد ليبنوا به القصور الفخمة في العواصم الغربية ويتنعموا به هم وأسرتهم، ولمّا صار الموقف الحق عند هذه الشريحة من الناس مداناً وكلمة الصدق مكروهة والمخلصون لقضايا الناس متهمين والمنافقون والمتقلبون كل يوم في مواقفهم محترمين، فكيف يأمل المستسيغون للظلم أن ينعموا بالعدل، وكيف يتوقع الراضون بزعامة المنافقين والدجّالين أن يصلوا إلى السعادة والهناء، وهل يعقل أن يهب الله العزة لمن قبِل هو الخضوع أمام الطاغين، وهل يمكن أن ينزل الله النصر على من أنِسوا العيش في الذل واعتادوا تقبيل أيدي المستكبرين، وهو الذي أمرنا في كتابه المُنزل أن نكفر بالطاغوت قبل أن يدعونا إلى عبادته ((فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم)).

وما دامت الحال عند الأمة هكذا فسيبقى الظلم مستمراً والطغاة مسلطين وثروات الشعب المسكين ينهبها السارقون ومصير البلاد يتلاعب به الخائنون، وتتوالى المصائب على الفقراء والمستضعفين ولا ينزل عليهم نصر من الله أبداً لأنهم توانوا في التصدي للمتفرعنين، وتكاسلوا في مجابهة المستكبرين، ولم يتبعوا رسالة سيد المرسلين محمد وأهل بيته الطاهرين في مقارعة الجائرين والثورة على الفاسدين.

 

الوسوم