بيروت | Clouds 28.7 c

الهجرة المباركة دروسٌ وحِكم/ بقلم الشيخ أسامة السيد

الهجرة المباركة دروسٌ وحِكم/ بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 13 أيلول 2019 العدد 1916

الحمد لله رب العالمين وسلامٌ على عباده المخلَصِين.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: ((إلا تنصُروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيَّده بجنودٍ لم تروها وجعل كلمةَ الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيزٌ حكيم)) سورة التوبة.

لو سأل سائل: لماذا كانت الهجرة وما هي الحكمة من الهجرة ولماذا كان التأريخ بالهجرة؟

لقلنا في الجواب: إن الهجرة الشريفة كانت تنفيذًا لأمر الله تعالى فلم تكن جُبنًا ولا هربًا ولا استسلامًا للباطل ولا خوفًا من مواجهة مشركي قريشٍ الذين كانوا يكيدُون لنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم ويريدون أن يُطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يُتمَّ نوره ولو كره الكافرون، وقد راموا الشر واقترح أبو جهلٍ أن يأخذوا من كل قبيلةٍ فتىً بيده سيفٌ يقومون على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضربوه إذا خرج ضربة رجلٍ واحد، ورأى أن دمه يتفرَّق في القبائل بهذه المكيدة الشيطانية فيرضى بنو هاشمٍ بالدِّية لأنهم لا يقدرون على حرب كل تلك القبائل، فأي غُرورٍ انطوت عليه سريرة أبي جهلٍ؟! وقد أشاح عن الهدى وهيهات أن يُفلح من عادى الله ورسوله. وبالفعل قاموا بسيوفهم كما أمرهم أبو جهلٍ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم وبات في فراشه البطل الإمام عليٌ لحفظ الأمانات التي كانت عنده عليه الصلاة والسلام وردِّها لأصحابها، وألقى الله عليهم النوم فما أيقظهم إلا حرُّ الشمس وإذا بعليٍ عليه السلام يخرج عليهم فيرجعوا خائبين.

وانطلق النبي محمدٌ صلى الله عليه وسلم يصحبه أبو بكرٍ الصدِّيق تاركين الأهل والبلد مهاجرين تنفيذًا لأمر الله، وهاجر الصحابة الكرام أفواجًا تلو أفواجٍ طاعةً لله ورسوله ليكونوا في المدينة حول أعظم قائدٍ عرفه التاريخ.

الحكمة من الهجرة

ولا يخفى على اللبيب أن الهجرة المباركة قد اشتملت على حِكمٍ عظيمةٍ يطول الحديث في تفصيل الكلام عنها وخلاصة القول: إن الهجرة الشريفة كانت تأسيسًا لبداية قيام الدولة الإيمانية المفعمة بالهدى والعدل، فقد اجتمع الصحابة الأبرار في المدينة المنوَّرة على قلب رجلٍ واحدٍ، وأتمَّ الله عليهم نعمته فجعلهم إخوةً في الدِّين معتصمين بتعاليم سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم بعد ما مزَّقتهم حروب الجاهلية وغرست فيهم يدُ العداوة بُذورَ الكراهية والضغينة التي اجتثَّها الإيمان من أفئدتهم ليكونوا يدًا واحدةً في الحق كما أمر ربنا بقوله: ((واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا واذكروا نعمةَ الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا وكنتم على شفا حفرةٍ من النَّار فأنقذكم منها كذلك يُبيِّن الله لكم ءاياته لعلكم تهتدون)) سورة آل عمران. فتأمل هذا الوصف لتُدرك ما رسخ في تلك النفوس الأبية.

لقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه المهاجرين والأنصار فجعل الأنصاريُّ يقسم ماله شطرين بينه وبين أخيه المهاجر الذي لم تلده أمه، أو تكون له داران فيهب دارًا لأخيه ويكتفي لنفسه وعياله بدارٍ واحدةٍ، وتلك بعض ثمار الإيمان وبذلك يقوى المجتمع المؤمن ويصير المؤمنون كالجسد الواحد وهذا ما تحقَّق بالفعل بين المهاجرين والأنصار ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: ((مثلُ المؤمنين في توآدِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى)) رواه مسلمٌ عن النعمان بن بشير.

لقد أرسى النبي صلى الله عليه وسلم دعائم المجتمع الإيماني في المدينة المنوَّرة ثم تلت ذلك مرحلة جديدة في تاريخ الدعوة المحمدية الغرَّاء فكانت المواجهات العسكرية التي لم يكن منها بدٌ أمام تعنُّت المشركين الذين راحوا يحشدون الجيوش لإيقاف مسيرة الإصلاح، ولكن هيهات أن يحجب الشمسَ غبارٌ تُثيره زوبعة صيفٍ بل ما زالت شمسُ الحق التي أشرقت في مكة واستوت في المدينة تمدُّ خيوطها الذهبية التي عمَّت الآفاق  وأرجاء الأرض.

التأريخ بالهجرة

لقد كانت الهجرة بحقٍ بداية قيام دولة الإيمان وظهور قوتها الكبرى، فمن المدينة المنورة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم برسائله إلى قيصر الروم وكسرى الفرس وغيرهما من ملوك ذلك الزمان يدعوهم إلى الإيمان والعدل فمنهم من آمن ومنهم من أبى، وأقرَّ اللهُ عينَ نبيه صلى الله عليه وسلم بأن دخل الناس بعد فتح مكة في دين الله أفواجًا فتوحَّدت الجزيرة العربية واجتمعت القبائل المتناحرة تحت راية واحدة فحملت للدنيا مشاعلَ النور وبات يدفعهم حبُ الخير للغير إلى بذل الغالي والنفيس طلبًا لمرضاة الله وحده.

ولأجل ما حملته الهجرة من معانٍ جليلةٍ وما انطوت عليه صفحات هذا المنعطف التاريخي العظيم رأى الخليفة الملهَم عمر بن الخطاب أن يؤرخ للأمة بالهجرة، ولم يكن قبل ذلك للعربِ تاريخٌ جامعٌ يتفقون عليه، فقد أرخ بعضهم من موت كعب بن لؤي وهو الجد السابع للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم أرَّخوا بعام الفيل وهو العام الذي أراد أبرهة فيه هدم الكعبة فأهلكه الله بالطير الأبابيل، وأرَّخ بعضهم بأحداثٍ أخرى حتى جمعهم سيدنا عمر رضي الله عنه على التأريخ بالهجرة، وما زال العمل عليه جاريًا إلى يومنا هذا.

عجيبة

وحيث لا نزال نرى في هذا الزمان العجائب فإن من أغرب ما بلغَنا فتوى مدعي السلفية ناصر الألباني التي أوجب فيها على أهل الضفة الغربية الهجرة من فلسطين اقتداءً بزعمه بالنبي صلى الله عليه وسلم حين هاجر من مكة كما في ((فتاوى الألباني)) وتغافل الألباني عن أن وجوب الهجرة قد نُسخ بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا هجرة بعد الفتح (فتح مكة))) رواه البخاري عن ابن عبَّاس. وما هذه الفتوى في الحقيقة إلا مقدمة لإخلاء فلسطين من أهلها وتركها لقمةً سائغةً لليهود، والعجب كيف ساغ لهذا المتمشيخ تحريم بقاء أهل الضفة في فلسطين وكيف ساغ للبعض الدفاعُ عن هذه الفتوى.

والحمد لله أولاً وآخراً.   

الوسوم