بيروت | Clouds 28.7 c

العمل الصالح بركةٌ في الدنيا والآخرة / بقلم الشيخ أسامة السيد

العمل الصالح بركةٌ في الدنيا والآخرة / بقلم الشيخ أسامة السيد

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: ((فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرًا يره)) سورة الزَّلزلة.

إن من حكمة الله تعالى أن جعل الدنيا دارَ عملٍ والآخرةَ دارَ الجزاء على العمل، فالدنيا مزرعة الآخرة وما يُقدِّمه المؤمن اليوم يُجزى به غدًا، والعاقل من نظر فيما يُقدِّم للدار الباقية، وفي الآية الترغيبُ بقليل الخير وكثيره والتحذير من قليل الشرِّ وكثيره، ومعنى ((يره)) يرى جزاء عمله.

قال النسفي في ((تفسيره)): ((وروي أن جد الفرزدق (الشاعر المعروف) أتى النبيَّ عليه الصلاة والسلام ليستقرئه (أي ليتعلم منه) فقرأ (أي النبي صلى الله عليه وسلم) عليه هذه الآية فقال: حسبي حسبي)). أي في هذه الآية موعظة كافية لي.

وحيث عُلم هذا فجديرٌ بالمؤمن أن يجعل هذه الآية نصب عينيه وأن يفكر مليًا قبل أن يدخل في أي عملٍ من الأعمال القلبية أو القولية أو الفعلية فينظر إن كان عمله هذا على وفق الشرع فعَلَه، وإن كان على خلاف ما أباحه الله تعالى اجتنبه. فقد روى مسلم عن أبي ذرٍ الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عزّ وجل أنه قال: ((يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوَفِّيكم إيَّاها (أي أوَفِّيكم جزاءها ثوابًا أو عقابًا) فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه))

من ثمرات العمل الصالح

فالعمل الصالح نورٌ يُبدد غياهب الظلمات بل قد يصرف الله عن المرء كثيرًا من الآفات والشُرور بأسرار الأعمال الصالحة ولهذا شاهدٌ من الحديث فعن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((انطلق ثلاثة نفرٍ (والنفر اسم جمعٍ يقع على عددٍ مخصوصٍ من الرجال ما بين الثلاثة إلى العشرة) ممن كان قبلكم (في الزمن السابق) حتى آواهم المبيت إلى غارٍ (كهف) فدخلوه فانحدرت صخرةٌ من الجبل فسدَّت عليهم الغار. فقالوا: إنه لا يُنجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم (أي متوسلين إليه بصالح أعمالكم). قال رجلٌ منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أَغْبِقُ ( الغَبُوق الشرب بالعشي، أي لا أُقدِّم في شرب الماء أو اللبن) قبلهما أهلاً (نحو زوجٍ أو ولدٍ) ولا مالاًَ (نحو خادمٍ) فنأى (بَعُدَ) بي طلب الشَّجر يومًا (أي لرعي المواشي) فلم أُرِحْ (أرجع) عليهما حتى ناما فحلبتُ لهما غَبُوقَهما فوجدتهما نائمين وكرهت أن أوقظهما وأن أغْبِقَ (أسقي بالعشي) قبلهما أهلاً أو مالاً فلبثت والقَدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى بَرَق الفجر (ظهر ضوءه) والصِبية يتضَاغَوْنَ (يصيحون) عند قدمي فاستيقظا فشربا غَبُوقَهُما، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك (طلبًا لمرضاتك) ففرِّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج منه. وقال الآخر: اللهم كان لي ابنة عمٍ كانت أحبَّ الناس إليَّ فأردتها على نفسها (أي أردتُ الزنى بها) فامتنعت مني (أي لم توافقني على فعل الفاحشة) حتى ألمت (نزلت) بها سنةٌ من السنين (المجدبة) فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينارٍ على أن تُخَلِّيَ بيني وبين نفسها (أي لأفتعل بها الفاحشة) ففعلتْ حتى إذا قَدَرْتُ عليها قالت: اتق الله ولا تَفُضَّ الخَاتَم إلا بحقه (الفَضُّ الفتح والخاتم كناية عن الفَرج وحقه التزويج) فانصَرفتُ عنها وهي أحب الناس إليَّ وتركتُ الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فَاْفْرُجْ عنَّا (أي فَرِّج) ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. وقال الثالث: اللهم استأجرتُ أُجَراءَ وأعطيتُهُم أجرَهم غيرَ رجلٍ واحدٍ ترك الذي له وذهب فثَمَّرت (كثَّرت) أجرَهُ حتى كَثُرت منه الأموال فجاءني بعد حينٍ فقال: يا عبد الله أدِ لي أجري. فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي (وذلك لأن أجره في أصله لا يُقارب ما أعطاه). فقلت: لا أستهزئ بك. فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئًا، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فَافْرُجْ (أي فَرِّج) عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة (عن باب الغار) فخرجوا يمشون)) متفقٌ عليه.

 

قدِّم لآخرتك

 

وإذا ما كانت هذه بعض ثمرات العمل الصالح في الدنيا حيث فرَّج الله عنهم ما نزل بهم من الكرب بسرِّ أعمالٍ صالحة سبقت منهم فتوسلوا بها إلى الله فكيف بما أعدَّه الله من الثواب الجزيل في الآخرة جزاء ما يقدمه المؤمن من عمل صالح؟

فحريٌ بالمؤمن إذًا أن ينظر ماذا يُقدِّم في دنياه لأخراه فإن الله تعالى يقول: ((يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدَّمت لغدٍ واتقوا الله إن الله خبيرٌ بما تعملون)) سورة الحشر. والغد الآخرة، وقديمًا قالت العرب: ((كل آتٍ قريب)) فإذا ما كانت القيامةُ آتيةً والحسابُ آتٍ فإن ذلك قريب قال تعالى:((اقترب للناس حسابُهم وهم في غفلةٍ معرضون)) سورة الأنبياء.

وفي الحديث إشارةٌ إلى فضل أعمالٍ صالحة منها: استحبابُ الدعاء حال الكرب، وجوازُ التوسل بصالح العمل وهو بذوات الصَّالحين أولى، وبيانُ فضلِ بر الوالدين والإحسان إليهما، وفضلِ العَفَاف عن الحرام لا سيما بعد القدرة عليه والهمِّ بفعله، وفيه أيضًا فضلُ حفظِ الأمانة والسماحة في المعاملة، وكل ذلك من الأعمال الصالحة التي يُثيب اللهُ المؤمنَ عليها.

هذا وأبواب الخير كثيرة ولكن قلَّ من الناس من يدخل فيها، فإننا لو نظرنا إلى حال العباد في شتى بقاع الدنيا لوجدنا أن أكثر الناس ليسوا على حالةٍ مرضيةٍ عند الله تعالى، فإن أغلبهم قد أعرضوا عن طلب علم الدين الذي هو دليلٌ إلى الأعمال الصالحة، وترى كثيرًا ممن نال حظًا من علم الدين لا يعملون بما تعلموا. ونحن نقول: من كَرُمت عليه نفسُه هان عليه حملُها على الازدياد من الأعمال الصالحة عملاً بقوله تعالى: ((وافعلوا الخير لعلكم تُفلحون)) سورة الحج.

والحمد لله أولاً وآخراً.  

 

الوسوم