بيروت | Clouds 28.7 c

بعد((بوسطة)) قبر شمون: لبنان في المنطقة الصفراء الفاصلة بين الاستقرار وزعزعته! / بقلم : مدحت عبيد

بعد((بوسطة)) قبر شمون: لبنان في المنطقة الصفراء الفاصلة بين الاستقرار وزعزعته! / بقلم : مدحت عبيد

مجلة الشراع 26 تموز 2019 العدد 1910

 

*بري طرح ثلاثة مسارات منفصلة للحل قضائياً وسياسياً وامنياً

*السفارات الأجنبية تسأل: هل ما حصل كمين معد مسبقاً أم نتيجة احتقان شعبي؟

*التسوية الرئاسية بعد حادث البساتين صارت مظلة مثقوبة وسط العواصف

*المطالبون بالمجلس العدلي يريدون التأكيد بأن ما جرى كان كميناً لمحاصرة الاشتراكي

*كثافة التسييس رسمت مساراً شديد الخطورة تجاوز التحقيقات القضائية

 

ليس مصادفة ان الرئيس نبيه بري سارع الى بذل كل جهد ممكن من أجل اطفاء حريق حادثة البساتين في قبرشمون, وهو المطل على التاريخ المعاصر للبنان بكل تشعباته وتعقيداته والثغرات التي يمكن ان تولد مناخات سيئة للغاية أدت في مراحل سابقة الى جولات من حروب لم يسلم لبنان بعد من تداعياته وما خلفته في النسيج الوطني من انقسامات.

ومن الواضح تماماً ان بري العاكف حالياً على استنباط الحلول التسووية يعرف ان هذا الأمر ليس وحده المطلوب إلا انه في الظروف الحالية يبقى أهون الشرين حتى لا تتفاعل القضية أكثر وأكثر, خصوصاً وأنه رجل الحفاظ على الاستقرار منذ عقود ولو كان هذا الاستقرار في الحد الأدنى.

وأبعد من كيفية التعاطي سياسياً من قبل الحكومة اللبنانية مع ملف حادثة قبرشمون، يظل السؤال الأهم هو عن معاني هذه الحادثة ومؤشراتها وما تخفي من ظلال داكنة على أبرز ملف في الكيان اللبناني منذ ولادته حتى الآن، وهو السلم الأهلي بين مكوناته الطائفية.

وأهمية حادثة قبرشمون لناحية ارتباطها بملف السلم الأهلي، تتأتى من عدة عناصر وعوامل وأسباب، وفيما يلي جردة لبعض عناوينها: 

اولاً: المكان الذي حصلت فيه الحادثة، وهو جبل لبنان، وفي تعريف آخر له، هو ((لبنان الصغير)) الذي أضيفت له الأقضية الأربعة ليصبح لبنان الكبير. وفي تعريف ثالث له ، وهو يضم قضاءي الشوف وعاليه اللذين يعبران عن ذاكرة التعايش في جبل لبنان من أيام فخرالدين مروراً بحكم المتصرفية والقناصل وحتى أيام لبنان الصغير وصولاًَ للبنان الكبير بنسخه المختلفة. كمال جنبلاط كان يدرك انه مهما استعر أوار الحرب الأهلية، فهي  لن تهدد وحدة لبنان ومنظومة التعايش فيه، الا اذا امتدت للجبل الصغير الذي هو قلب لبنان الكبير. 

وثمة اتجاه ولد بعد قيام جمهورية الطائف يفيد بأن مقولة ان لبنان الصغير، أي الجبل، هو سر ومعنى لبنان الكبير انتهت بفعل ان الطائف هو ميثاق بحجم كل الجغرافيا اللبنانية، وليس كميثاق الـ 43 الذي كان دستوراً يعمم نكهة جبل لبنان على كل لبنان. وتبدو هذه المقولة انها تنطوي على مخاطرة في الحكم على معنى لبنان الداخلي، والبعض يقول انها تنطوي على تسرع وعلى تبسيط. فجبل لبنان الذي أنتج معادلة تفاعل الطائفتين المؤسستين اي الدروز والموارنة، هو الجينة الأم التي ان فسدت اعتل الجسد اللبناني بداء الوهن الذي لا شفاء منه. ولا يعني ذلك ان الطوائف الأخرى ليس لها دور أساس وهام في بقاء لبنان، ولكن المقصود  هنا ان الجبل توجد فيه روح لبنان كوطن- رسالة وليس فقط جغرافيا..    

وليس هنا موضوع الخوض في هذا الجدل الموجود وغير المعلن عنه، ولكن الخلاصة ان حادثة قبرشمون جرت في منطقة من لبنان أكثر من حساسة كونها تحتضن روح لبنان، بمعنى لبنان الجينة التأسيسية لكيانه.  

ثانياً: توقيت الحادثة جاء في لحظة تمتاز بأنها لحظة إشتعال داخلي واقليمي. فمعظم الدول المحيطة بلبنان تعيش خرائط تقسيم أمر واقع: سورية مقسمة لمناطق نفوذ، وذلك على أساس مذهبي وعلى أساس دولي واقليمي. وحتى ((اسرائيل)) تعيش حالة سعي كل من دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو لتغيير خرائط أوسلو فوق أرضها. وفي الحدود البعيدة القريبة كالعراق، فإن هذا البلد ما يزال أيضاً يعاني من حالة تقسيم بداخله بأكثر مما هي فيدرالية. ولذلك فإن المعاني غير الظاهرة لحادثة قبرشمون حملت الى لبنان غيوماً داكنة تقسيمية تسود في الاقليم. 

ثالثاً: وثمة داخل حادثة قبرشمون أسئلة ركزت على طرحها السفارات الاجنبية والعربية الموجودة في لبنان، وسعت للحصول على أجوبة شافية عنها: 

أحد هذه الأسئلة حاول بكثير من الاهتمام  التأكد من حقيقة ان ما جرى كان فعلاً كميناً معداً مسبقاً، أم انه احتقان شعبي انفعالي أدى لعمليات شغب تخلله اطلاق للنار؟؟.    

وكان مطلقو هذا السؤال يوضحون الفرق النوعي والهام والخطر بين هذين التوصيفين لما حصل، فاذا كان ما حدث هو فعلاً كمين معد مسبقاً لموكب وزير او حتى لموكب غير وزير، فإن هذا يعني ان حادثة قبرشمون هي بلا شك لها خلفيات ومؤشرات بوسطة  عين الرمانة عام 1975 والتي أدت الى انفجار الحرب السيئة الذكر. أما اذا كان ما حدث هو مجرد عملية تنفيس لاحتقان أدى لقتل، فإن هذا يعني ان الأمور تظل أقل خطورة!!. 

وكان واضحاً بخصوص هذه النقطة، ان الإجابة عن هذا السؤال على مستوى القوى اللبنانية تم تحميله اجابات سياسية بأكثر منها تقنية، فالفريق الذي طالب بإحالة الملف على المجلس العدلي أراد من ذلك القول ان ما حدث كان كميناً وأراد من خلال ذلك أيضاً التلميح بأن ما حدث هو مؤشر في مشروع فتنة كبرى. فيما الطرف الآخر حسم ان المكان الطبيعي والمناسب للتحقيق في هذه الحادثة هو المحكمة العسكرية، وأراد من خلال ذلك القول ان ما حدث هو نتيجة احتقان شعبي بوجه تصرفات سياسية قامت بها جهة معينة والمقصود هنا تصرفات جبران باسيل. 

والواقع ان هذا المشهد أدى الى التأثير على مسار التحقيق منذ البداية، بل يمكن القول انه ادى الى جعله مساراً شديد الخطورة لناحية كثافة التسييس فيه. ففي حال تبنت الحكومة احالة ملف قبرشمون الى المحكمة العسكرية، فهذا سيعني ان سبب ما حدث هو احتقان شعبي، وعندها سيكون هناك نوعان من الجناة: نوع أمني يمثله مطلقو النار، وجناة سياسيون وهم الجهة التي تسببت في هذا الاحتقان. بمعنى آخر سيكون هناك حكمان: حكم معلن وهو بحق مطلقي النار.. وحكم سياسي غير معلن وهو ضد المتسبب في جعل ابناء الجبل الدروز يشعرون بحالة احتقان وهيجان سياسي، وهو هنا جبران باسيل. 

اما اذا احالت الحكومة ملف قبرشمون الى المجلس العدلي فهذا سيوحي بأن ما حدث كان كميناً معداً مسبقاً، وهنا أيضاً سيكون هناك حكمان: حكم معلن يقضي بتوقيف مطلقي النار، وحكم سياسي غير معلن يحمل قيادة الحزب التقدمي الاشتراكي مسؤولية الاعداد لبوسطة 2019...

وليس واضحاً بعد ما هي الآلية الأمثل لحل ملف قبرشمون، فالرئيس بري اقترح السير بثلاثة مسارات كل واحد منها منفصل عن الآخر: مسار قضائي وآخر أمني وثالث سياسي. أغلب الظن ان بري يريد فك هذه المسارات عن بعضها البعض لتخفيف وطأة ترابطها، كون بقائها مترابطة ستجعل الحكم السياسي غير المعلن أكثر وطأة عليه من الحكم الجنائي المعلن.

رابعاً: داخل اروقة دبلوماسية في بيروت وأيضاً داخل مستويات سياسية وأمنية عميقة، هناك من يقول ان لبنان يعيش حالياً في مرحلة ما بعد قبرشمون. بمعنى آخر فإن مواصفات الوضع الداخلي في لبنان ما قبل حادثة قبرشمون ليست هي ذاتها ما بعد هذه الحادثة. وثمة ثلاث نقاط استجدت او أدخلتها حادثة قبرشمون الى المعادلة اللبنانية السياسية والأمنية الداخلية: 

النقطة الأولى تتمثل بأن الخلاف السياسي في لبنان وصل لنقطة تتعدى انه خلاف طبيعي يشهده أي بلد فيه نسبة من الحياة السياسية الديموقراطية.. وان هذا الخلاف ليس فقط نتيجة لما أسفرت عنه نتائج اخر انتخابات نيابية.. بل هذا الخلاف بشهادة ما حصل في قبرشمون، بات يتفاعل على تماسات السلم الأهلي والمنطقة الصفراء الفاصلة بين الاستقرار الأهلي وزعزعة الاستقرار الأهلي. 

النقطة الثانية تتعلق بأن التسوية الرئاسية التي اعتبرت معادلة سياسية حاضنة للمرحلة السياسية الراهنة في لبنان، بات واضحاً انها تشبه مظلة مثقوبة وذلك في وقت تسوده العواصف والأمطار الغزيرة. 

النقطة الثالثة وهي الأكثر خطورة تتصل بأن لبنان يعيش ((مزاج تقسيم)) في وقت تعيش فيه دول جواره تقسيمات أمر واقع.    

مدحت عبيد

 

الوسوم