بيروت | Clouds 28.7 c

من هو التاجر الصدوق؟ بقلم الشيخ أسامة السيد

من هو التاجر الصدوق؟ بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 5 تموز 2019

 

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: ((يا أيها الناس كُلوا مما في الأرض حلالاً طيبًا ولا تتَّبعوا خُطُوات الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين)) سورة البقرة. وعن أبي سعيدٍ الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التاجر الصدُوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)) رواه الترمذي.

ليُعلم أنه يجب على العبد أن يُطيع خالقه تبارك وتعالى بأداء ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، وقد أرسل الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بشريعةٍ سمحةٍ تضمنت أحكامًا راقيةً يسعد من تمسك بها في الدارين، فإن الإسلام دينٌ كاملٌ فيه المنهج الأسمى لمن تمسك به فينبغي مراعاة أحكامه والعمل بما جاء فيه، فقد حفظ الإسلام الحقوق وأعطى لكل ذي حقٍ حقه. ومما يُهم معرفته والوقوف عنده ما يتعلق بأحكام البيع والشراء لا سيما في هذا الزمن الذي انتشر فيه الغش والفساد والتلبيس والخداع، ولا يخفى ما في إجراء عقود البيع والشراء والدخول في المعاملات المالية على الوجه الشرعي من مجاهدةٍ للنفس وكفها عن هواها.

البيع المبرور

ولذلك كان للتاجر الصدوق الأمين الذي يتحرى الحلال ولا يحمله الطمعُ على الدخول فيما حرَّم الله لحيازة بضعة دراهم أو دنانير هذا الأجرُ الجزيلُ الذي بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أعلاه، وفيه تنبيهٌ على رعاية الكمال في صفتي الصدق والأمانة حتى ينال التاجرُ هذه الدرجةَ العالية الرفيعة، فإن تحرَّى المرء ذلك كان في زمرة الأبرار، وإن تعاطى الغَش والتدليس واقتحم مستنقعات الحرام في تجارته كان في جملة العصاة المستحقين لعذاب الله الشديد ويكون داخلاً تحت الحديث الذي رواه البخاري عن خولة الأنصارية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حقٍ فلهم النارُ يوم القيامة)). والمراد النهي عن التخليط في المال وتحصيله كيفما أمكن سواءٌ بالطريقة التي أباحها الله أم لا، وهذا حال الذي لا همَّ له من تجارته إلا تحصيل المال ولا ينظر إلى التجارة إلا على أنها وسيلة لجمع المكاسب الدنيوية كيفما اتفق، ولو أنصف هذا المفتون نفسه لوقف عند حد الشرع والتزم أحكامه في معاملاته، فقد روى أحمد عن رافع بن خَديجٍ قال: ((قيل يا رسول الله أي الكَسْب أطيب))؟ قال: ((عَمَل الرجل بيده وكلُ بيعٍ مبرور)) والبِر في البيع يعني أن ألا يُخالطه شيءٌ من الكذب ولا شيءٌ من الغَشِّ فإن البيع في اصطلاح الفقهاء هو مقابلة مالٍ بمالٍ على وجهٍ مخصوص. وأما تعريفه في اللغة فهو مقابلة شيءٍ بشيءٍ. وقال الشاعر:

 ما بعتكم مُهجتي إلا بوصلكمُ                            ولا أُسَلِّمها إلا يدًا بيد

وقد أفاد قول العلماء ((على وجهٍ مخصوص)) أنه لا يصح كل بيعٍ إلا ما استوفى الشروط والأركان التي أوضحها الشرع فلا بد إذًا من مراعاتها، وأما قول الله تعالى في سورة البقرة: ((وأحلَّ الله البيع)) فهو عامٌ من حيث اللفظ ومعناه إباحة جميع البيوع إلا ما خصَّه الدليلُ أي ما دلَّ الدليلُ الشرعي على حرمته. وقيل: بل اللام في قوله ((البيع)) للعهد أي تناولت الآية بيعًا معهودًا وقد نزلت بعد أن أحلَّ النبي صلى الله عليه وسلم بيوعًا وحرَّم بيوعًا وقد ذكر هذين المعنيين السيوطي في ((الإتقان)).

سيدنا عمر والتجَّار

وحيث عُلم هذا دلَّ على أن صحة البيع والشراء تقوم على أحكامٍ بيَّنها الشرع الشريف وليس مجردُ رضا الطرفين بالمعاملة عنوانًا لصحة العقود المالية، فكم يدخل ناسٌ في معاملاتٍ فاسدةٍ برضاهم، وكم يتعاطى ناسٌ الحرام برضاهم؟ وكثيرًا ما تحصل معاصٍ برضا الأطراف الداخلين فيها كالزنى والقمار وغيرهما، فكما يحرم الزنى ولو كان برضا الزاني والزانية كذلك تحرم بعضُ المعاملات ولو كانت برضا البائع والمشتري، ولذلك وجب على من أراد البيع والشراء أو غير ذلك من المعاملات كالإجارة والرهن والوكالة والشركة والوديعة تعلَّم أحكامها وإلا وقع في الحرام شاء أم أبى، فإنه لا يجوز للمسلم أن يدخل في شيء حتى يعلم ما أحل الله منه وما حرَّم، ولذلك كان لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب اعتناءٌ كبير بالنظر في أحوال التُجَّار بل وامتحانهم في علوم المعاملات، فقد أخرج الترمذي في ((سننه)) أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قال: ((لا يبع في سُوقنا إلا من قد تفقَّه في الدين)). وحيث كان سيدنا عمر يُخرج من السوق العام ((أي الذي ليس مملوكًا لشخصٍ بعينه، لا الحانوت الخاص بمالكه)) من لا يعرف أحكامَ المعاملات حرصًا منه على السلامة من الوقوع في المعاملات الفاسدة، فإن فعله هذا يتضمن الدعوة إلى تعلُّم ما يحتاج إليه صاحبُ هذا الشأن، فجديرٌ بمن يصرف أغلب أوقات عمره في شؤون التجارة وجمع المال وادِّخاره والتَّنقل من سوقٍ إلى سوقٍ من غير مللٍ ولا كللٍ ويُجهدُ نفسه بالعمل الدنيوي ويُهمل لأجل ذلك أهله وولده فيُقصِّر في الحقوق الواجبة عليه تجاههم أن يُعطي بعضَ الوقت للتفقه في أحكام المعاملات ليسلم في دينه ودنياه، فقد روى الطبراني في ((الأوسط)) عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((طلب الحلال واجبٌ على كل مسلم)) ومعناه أن الابتعاد عن الحرام في أسباب المعيشة واجبٌ، فمن أراد الحلال فعليه أن يسعى لمعرفة طُرقه. ثم إن جمع إلى معرفته بطُرق الحلال حُسنَ المعاملة مع الناس زاد خيرُه وبِرُّه فقد روى ابن حبَّان عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رحم الله عبدًا سَمْحًا إذا باع سَمْحًا إذا اشترى سَمْحًا إذا اقتضَى سَمْحًا إذا قَضى)) وقوله سَمحًا أي سهلاًَ ومعنى قضى أي ردَّ الدَّين الذي عليه ومعنى اقتضى أي طالب بدينه فلا يؤذي المقترض بالحبس ونحوه بغير حقٍ بل يصبر عليه إذا أعسر.

وما أحوج أكثر التجار اليوم إلى هذه المبادىء فقديمًا انتشر الإسلام في أندونيسيا وهي أكبر دولةٍ إسلاميةٍ اليوم بواسطة تجَّارٍ حضارمة ((نسبة إلى حضرموت في اليمن)) بعد ما كان أهلها من البوذيين فرأوا من التجَّار أخلاقًا عاليةً في التسامي فآمنوا ولم يطأ أرضهم جيش ولا غزو. 

والحمد لله أولاً وآخراً.

  

الوسوم